صلاة النافلة في البيت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
من فضل الله تعالى على عباده أن جعل لهم مساجد يعبدوه فيها؛ فتضاعف لهم الأجور والحسنات، وتمحى عنهم السيئات قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}(سورة النور:36).
وفي المساجد جاءت الأوامر بالصلاة، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى صلاة النافلة فجعل أداءها في البيت أفضل، اللهم إلا إن كان يسن لها الاجتماع في المسجد كصلاة الكسوف وغيرها، وقد وردت الأدلة الدالة على أن صلاة النافلة في البيت بشكل عام أفضل من صلاتها في المساجد فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً)) رواه البخاري (432) ومسلم (777) قال الإمام النووي رحمه الله: "معناه: صلُّوا فيها، ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة، والمراد به: صلاة النافلة، أي: صلوا النوافل في بيوتكم"1.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة قال: (حسبت أنه قال: من حصير) في رمضان فصلى فيها ليالي، فصلَّى بصلاته ناسٌ من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد، فخرج إليهم، فقال : ((قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم، فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)) رواه البخاري (731)، ومسلم (781) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ظاهره أنه يشمل جميع النوافل؛ لأن المراد بالمكتوبة: المفروضة، لكنه محمول على ما لا يشرع فيه التجميع، وكذا ما لا يخص المسجد كركعتي التحية، كذا قال بعض أئمتنا"2.
وعن عبد الله بن شقيق قال سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه فقالت: ((كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر، وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد، وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين)) رواه مسلم (730) قال الإمام النووي رحمه الله: "فيه استحباب النوافل الراتبة في البيت كما يستحب فيه غيرها، ولا خلاف في هذا عندنا، وبه قال الجمهور، وسواء عندنا وعندهم راتبة فرائض النهار والليل"3.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته؛ فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً)) رواه مسلم (778) قال الإمام المناوي رحمه الله: "(إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده) يعني: أدى الفرض في محل الجماعة، وخصَّ المسجد لأن الغالب إقامتها فيه، (فليجعل لبيته) أي: محل سكنه، (نصيباً): أي: قِسماً، (من صلاته) أي: فليجعل الفرض في المسجد، والنفل في بيته لتعود بركته على البيت وأهله كما قال: (فإن الله جاعل في بيته من صلاته) أي: من أجلها وبسببها، (خيراً) أي: كثيراً عظيماً لعمارة البيت بذكر الله وطاعته، وحضور الملائكة واستبشارهم، وما يحصل لأهله من ثواب وبركة، وفيه: أن النفل في البيت أفضل منه في المسجد ولو بالمسجد الحرام …"4.
والأدلة على ذلك أكثر من هذا، فصلاته صلى الله عليه وسلم الرواتب، وقيام الليل، والضحى؛ كل ذلك كان في بيته عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر بعض العلماء لصلاة النافلة في البيت حِكَماً فقال ابن قدامة رحمه الله: "والتطوع في البيت أفضل … لأن الصلاة في البيت أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء، وهو من عمل السر، وفعله في المسجد علانية، والسر أفضل"5، وليس معنى هذا أن صلاة النافلة في المسجد غير مقبولة، وإنما المقصود التعود على أدائها في البيت لأنه أفضل كما ذُكر.
نسأل الله بمنِّه وكرمه أن يوفقنا لما يرضيه، ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
1 المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (6/67) للإمام النووي، دار إحياء التراث العربي – بيروت. ط. الثانية 1392هـ.
2 فتح الباري (2/215) للحافظ ابن حجر العسقلاني، تعليق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ومحب الدين الخطيب. دار الفكر.
3 المنهاج شرح صحيح مسلم (6/9).
4 فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/418) لعبد الرؤوف المناوي، المكتبة التجارية الكبرى – مصر، ط.الأولى 1356هـ.
5 المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (1/811) للإمام ابن قدامة المقدسي دار الفكر – بيروت، ط الأولى 1405هـ.