آهات على أبواب رمضان

آهات على أبواب رمضان

الحمد لله، شق النور، وعلم هواجس الصدور، نافذ أمره، دائم بره، شديد بطشه، واجب حمده، فتبارك اسمه، وجلَّ ذكره، محمود بكل لسان، معبود بكل زمان، مقصود بكل مكان، أشهد أن لا إله إلا الله الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالقرآن رحمة للعالمين، الداعي على التوبة والإيمان – صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه – في كل حين وآن، أما بعد:

فما أسرع الأيام تمر كلمح البصر، وإنها والله نذير للبشر، لا يفرح الإنسان بمرورها بقدر ما يحزن على فواتها، ففي تصرمها انقضاء للعمر، وفي زوالها تقرب الأجساد من الحفر، كما قيل:

إذا تم شيء بدا نقصه                ترقب زوالاً إذا قيل تم

وفي هذه الأيام نستقبل أيام رمضان الغالية، والعزيزة على النفس، بعد أن طويت منذ عام كامل بما أودعناها من أعمال ستشهد علينا غداً أمام الله – تعالى -.

فأهلاً وسهلاً بك أيها الضيف الحبيب، حللت أهلاً، ووطئت سهلاً، وحيا الله الهلال الذي يبشر بقدومك؛ بحلولك تستأنس النفوس، وبنزولك تطمئن القلوب، لك في الخيال ذكرى، وفي النفس شجى، وفي الصدر شوق، وفي الأعماق حنين، جفت مآقينا يا رمضان فأدركها، وأرهقت كاهلنا الذنوب فخففها، وتلاحقت النكبات على أفئدتنا فواسيتها، وتقلبت أحوال الضمائر والنيات فطهرها، وتعرضت الأجساد لسخط الجبار فأنقذها، وتوالت صيحات الاستغاثة فأغثها، إليك يا رمضان آهات متأوه، يقول فيها:

" أظلمت الدنيا في وجهي طويلاً، بحثت عن سر السعادة فلم أجدها، نمت .. قمت .. شربت .. نشوت .. أكلت .. شبعت .. صاحبت .. سهرت .. أحببت .. نلت .. مشيت .. سرت .. أنفقت .. بذرت .. فرطت .. جهلت .. وأخيراً تعبت، وندمت، وخسرت.

جربت كل شيء فلم يسعدني، فعلت كل شيء فلم يرحني، إليك يا رمضان أبوح بخلجات الصدر، لن أجد من أئتمنه لنقلها كما هي سوى الثغر، فهو أسهل وسيلة للتغيير، فلقد سئمت حياة المعاصي والتقصير، وأسرفت على نفسي بشكل منقطع النظير، ولكن إذا أراد الله فليس عليه عسير، والآن ذقت طعم السعادة بعد أن عدت إلى الله عودة صادقة بإذن الله، إني أرى الضوء أخضراً، والحياة وردية، والأيام بيضاء، فلعلك يا رمضان تكون خير معين لي على طاعة ربي، فأنت موسم البركات، في ظلك أتفيؤ ظلال المغفرة والرحمات، فأنت شهر إقالة العثرات، والتعرض من الله لأطيب النفحات.

أعاهدك يا رمضان أن أبدأ صفحة جديدة مع الله، وأفتح سجلاً ناصع البياض، فلا تراني إلا محافظاً على الصلاة مع الجماعة في الصف الأول، وإذا بحثت عني فأنا مشغول بتكحيل عيني بتلاوة كتاب الله، أو تلمس الطريق لأصل إلى أهل العوز والحاجة، لأنفق عليهم، وأقوم بتفطير الصائمين، وإن فترت فلا أفتر عن الدعوة إلى سبيل ربي، أو الاستغفار في وقت السحر عن سابق معصيتي، أو الدعاء بأن يتقبل الله توبتي، ويغسل حوبتي، وإذا نام الأنام، صففت الأقدام في جنح الظلام، لأقوم الليل خاشعاً باكياً، وإن شاء الله سأزور بيت الله العتيق، وأعتمر وأعتكف؛ لعلي أنسى الماضي الأليم، وأرجع بوجه وضاء جديد، إني شاكر لنعم ربي التي طالما عصيته بها فيما مضى، خلفت الدنيا ورائي وطلقتها ثلاثاً بلا رجعة بعد شدة لجاج وغضب، فهي التي كانت تحركني، وتتحكم في قلبي وعاطفتي، ما أجمل العودة إلى الله، لقد أيقنت أن السعادة في طاعة الله وأن للإيمان طعماً حلواً لم يتذوقه كثير من الناس، وأن في دنيانا هذه جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وقد تاه أكثر عباد الله عن بابها"1.

إن رمضان فرصة للإنابة ومحاسبة النفس، والدنيا دار بلاء مشحونة بالمتاعب، مملوءة بالمصائب، طافحة بالأحزان، يزول نعيمها، ويذل عزيزها، ويشقى سعيدها، ويموت حيها، مزجت أفراحها بأتراح، وحلاوتها بمرارة، فلا تدوم على حال، ولا يطمئن لها بال، والموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً، ولا يستأذن أحداً، ولباسه لا يستثني جسداً، فأدعو نفسي وكل من يقرأ ما تخطه بناني إلى التوبة، اتركوا الرقدة والمنام، واهجروا المعاصي والإجرام قبل تصرم الآجال، وليردد الإنسان في هذا المقام

يا رب إن عـظـمت ذنوبــي كثرة              فلقد علمت بأن عفوك أعظــــم

إن كان لا يرجــوك إلا مــحسن               فمـن الذي يدعو ويرجـو المجــرم

أدعــــوك رب كما أمرت تضرعاً              فإذا رددت يدي فمـن ذا يرحـــم

مـا لي إليك وسـيلة إلا الدعـــاء               وجميل عفـــوك ثم أني مسلـــم

يا رمضان أعاهدك أنني سأنتقل فيك من طاعة إلى طاعة، يعصرني الألم على ما مضى من التفريط، ويحدوني الأمل في مواصلة الصالحات، وتجديد العهد، ورجاء القبول من الله، أتمنى أن تطول أيامك يا رمضان، فلقد أبهجت قلبي، وأنقذت حياتي بروحانيتك وأجوائك، وحلاوة أوقاتك، وخصوبة أرضك، فلا تلمني إذا ذرفت عيني لفراقك، ولا تؤاخذني إذا تحشرج صوتي متقطعاً في لظات وداعك، أناديك:

يا راحلاً وجميل الصب يتبـعه               هل من سبيل إلى لقياك يتفق

ما أنصفتك دموعي وهي دامية               ولا وفى لك قلبي وهو يحترق

عذراً يا رمضان .. إن البكاء ليس كله للفراق، فهناك شيء أكبر بكثير، إنه القبول فهو الذي يقض مضجعي، وينغص حياتي، فلا أدري أغفر لي ربي أم تركني غارقاً في لجة ذنوبي؟ فإن كان الأول فيا فوزي وسعادتي، وإن كان الثاني فيا خسارتي وبؤسي.

اللهم امنحني ولا تمتحني، وأعطني ولا تحرمني، وتب علي وسامحني، اللهم اجعل قلبي مملوءاً بحبك، ولساني رطباً من ذكرك، ونفسي مطمئنة لأمرك، مستسلمة لقضائك، يا من وثقت بعفوه هفوات المذنبين فما قطعها، وخرقت السبع الطباق دعوات التائبين فسمعها وما ردها، إلهي أطرقت من جلال هيبتك، وخجلت حياءً من عظمتك، وقفت سائلاً بباك، ولذت فقيراً بجنابك، ورست سفينة المسكين على ساحل كرمك، ترجو الجواز إلى ساحة رحمتك، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، إلهي بالإساءة أقررت، وبالتقصير اعترفت، ولبابك قرعت، ولمعروفك تعرضت، ولرحمتك خضعت، ومن فضلك سألت، فارحم ذل مقامي، وضعف قوتي، وقلة حيلتي وسلطاني، واجبر كسر قلبي، واختم بالصالحات عملي، وأقر برؤيتك في الآخرة عيني، إنك ملاذ الهاربين، وناصر المظلومين، ونصير المضطهدين، ومأوى الذنبين، وقابل التائبين.

والحمد لله رب العالمين.


 


1– منتديات الأخلاء http://www.alakhela.com/vb/showthread.php?t=9100