خذوا من العمل ما تطيقون
الحمد لله وحده، وأصلي وأسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم- ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المؤمنين: إن المتأمل في أحوال أمة الإسلام عموماً، والمنتسبين إلى الطرق الدينية والطوائف والمذاهب خصوصاً؛ يلمح خروجاً واضحاً، وفرقاً واسعاً، وبوناً شاسعاً بين وسطية الإسلام وغلو بعض المنتسبين إليه سواءً في العقائد أو الأحكام، أو العبادات والمعاملات، ما أدى إلى تباين بين أبنائه المنتسبين إليه, وظهور فرق الخوارج والمعتزلة … وغيرها، وبالاستقراء والتتبع فإن الْغُلُوَّ والتَّطَرُّفَ والشُّذُوذَ موجود في المنتسبين إلى جميع الأديان، وليس محصوراً في أهل الإسلام والمنتسبين إليه، ولكن هل هذا من منهج الإسلام وتعاليمه في شيء؟
لقد جاء الأمر بالتزام الوسطية، والاعتدال في الأمور كلها في الدين الإسلامي الحنيف قال – تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}1، وجاء في آخر آيتين من سورة الحج معظم تعاليم الإسلام في صيغة الأمر للمسلمين في قول الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}2، وروى الإمام البخاري – رحمه الله – من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((إنَّ هذا الدينَ يُسْرٌ، ولنْ يُشَادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه – وفي رواية: إلا هَزَمَهُ -، فَسَدِّدُوا، وقَارِبُوا، وأبشروا، واستعينوا بالْغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ))3.
ومعلوم حديث النفر الثلاثة الذين سألوا عن عبادة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما أُخبروا بها كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فقال أحدهم بأنه سوف يصوم الدهر ولا يفطر أبداً، وقال الآخر: سوف يقوم كل ليلة ولا ينام أبداً، وقال الثالث بأنه لن يتزوج أبداً، فأرشدهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المسلك القويم، والمنهج الرشيد الذي هو من سنته وهديه السديد، وبيَّن أن من رغب عن ذلك فليس منه فقال – عليه الصلاة والسلام -: ((إني أخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني))4.
ولذلك نهانا الله – جل جلاله – ورسوله محمد – عليه الصلاة والسلام – عن الغلو في الدين؛ لئلا نهلك كما هلك أهل الغلوّ ممن كان قبلنا قال – تعالى -: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}5، وعن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ))6، وجاء من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون))7، قال الإمام النووي – رحمه الله – في بيان معنى الحديث: "أي: الْمُتَعَمِّقُونَ الْمُغَالُونَ، الْمُتَجَاوِزُونَ الحدودَ في أقوالهم وأفعالهم".
أمة الإسلام: يقول ربنا – عز وجل – في محكم التنزيل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}8 قال ابن جرير الطبري – رحمه الله – في تأويل هذه الآية: "إن الله إنما وصفهم – أي: هذه الأمة – بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، ولا هم أهل تقصير، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها"، وجاء من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُجَاءُ بِكُمْ، فَتَشْهَدُونَ))، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}، قَالَ: ((عَدْلاً))؛ {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}9.
فهذه الأمة – عباد الله – هي خير أمة أخرجت للناس كما أخبر بذلك الله – تبارك وتعالى – فقال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}10، يقول السعدي في تفسير هذه الآية: "هذا تفضيل من الله لهذه الأمة بهذه الأسباب التي تميزوا بها، وفاقوا بها سائر الأمم، وأنهم خير الناس للناس نصحاً ومحبة للخير، ودعوة وتعليماً وإرشاداً، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وجمعاً بين تكميل الخلق، والسعي في منافعهم بحسب الإمكان، وبين تكميل النفس بالإيمان، والقيام بحقوق الإيمان".
عباد الله: إن وسطية هذه الأمة لا تكون ولا يتّصف بها إلا من كان على نهج النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار الرسول – صلى الله عليه وسلم – باطناً وظاهراً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله – عليه الصلاة والسلام – حيث قال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))11.
ومما يدلك – أخي المسلم – على أن طريق النجاة التمسكُ بما عليه الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصحبه قوله – تعالى -: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً}12، فقرن الله مشاقة سبيل المؤمنين (وهم الصحابة – رضوان الله عليهم -) بمشاقة الرسول – صلى الله عليه وسلم -، ثم بيَّن العقاب لمن خالف هذه الطريق وهو النار.
واعلموا – رحمكم الله – أن من وسطية الإسلام محاربة الغلو والتشدد في الدين، فإن الغلو هو مجاوزة الحد والمشروع من العبادة، وقد كان سبباً لهلاك الأمم من قبلنا حيث قال – عليه الصلاة والسلام – محذراً أمته: ((وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)) أي: من قبلكم من الأمم كاليهود والنصارى، وقد نهاهم الله وحذرهم من الغلو والتشدد في الدين فقال – تعالى -: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}13، وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ))14.
ومن الغلو المذموم الذي ينافي الوسطية في الإسلام الغلو في العبادة، وذلك بأن يزيد العبد في الطاعة والعبادة مما لم يفعله الرسول – صلى الله عليه وسلم -، ولم يأمر به الله، والله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}15، فقدوتنا في العبادة هو محمد – صلى الله عليه وسلم -، فما لم يفعله لا نتعبد الله بفعله، بل قد حذرنا – صلى الله عليه وسلم – من مخالفة هديه في العبادة فقَالَ: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ))16، ومن ذلك أيضاً أنه رَأَى شَيْخاً يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ قَالَ: ((مَا بَالُ هَذَا؟)) قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ))، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ17.
بل جاء عَنْ عَائِشَةَ – رَضِي اللَّه عَنْهَا – أَنَّهَا قَالَتْ: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً"، فإياكم – عباد الله – والغلو.
وفي المقابل إياكم كذلك والتفريط وعدم المبالاة بحجة أن الدين يسر، فإن كثيراً من الناس يترك شعائر الإسلام ثم يختار من فتاوى العلماء ما يناسب هواه دون النظر إلى الدليل من القرآن والسنة، ثم يحتج بأن الدين يسر، وهذه النظرة خاطئة، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يختار أيسر الأمور المشروعة التي لا إثم فيها، فإن كان فيها إثم فالابتعاد عنها هو النجاة.
وكل هذا اليسر في حياته – صلى الله عليه وسلم – مأخوذ من يسر الملة، وسهولة الشريعة، لاسيما وهو القائل: ((خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا))18، والقائل: ((بعثت بالحنيفية السمحة))19، والقائل: ((خير دينكم أيسره))20، والقائل: ((القصد القصد تبلغه))21، والقائل: ((عليكم هدياً قاصداً))22، وصدق فيه قول الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}23.
نسأل الله – تعالى – أن يفقهنا في ديننا، ويعلمنا العلم النافع، ويرزقنا العمل الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 البقرة (143).
2 الحج (77-78).
3 رواه البخاري برقم (39).
4 رواه البخاري برقم (5063).
5 المائدة (77).
6 رواه البخاري برقم (3057).
7 رواه مسلم برقم (2670).
8 البقرة (143).
9 رواه البخاري برقم (7349).
10 آل عمران (110).
11 رواه الترمذي برقم (2676)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2676).
12 النساء (115).
13 المائدة (77).
14 رواه البخاري برقم (39).
15 الأحزاب (21).
16 رواه مسلم برقم (1718).
17 رواه البخاري برقم (1865).
18 رواه البخاري برقم (1970).
19 رواه أحمد برقم (21778)، وصححه الألباني في السلسلة برقم (2924).
20 رواه أحمد برقم (15506)، وصححه الألباني برقم (3309) في صحيح الجامع.
21 رواه البخاري برقم (6463).
22 رواه أحمد برقم (22454)، وصححه الألباني برقم (4086) في صحيح الجامع.
23 سورة الأنبياء (107).