إنما الأعمال بالخواتيم

إنما الأعمال بالخواتيم

الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء، وأحصى كل شيء عدداً، رحم من شاء من عباده فهيأ لهم في الدنيا ما يرفع به درجاتهم في الآخرة، فثابروا على طاعته، واجتهدوا في عبادته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فإن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن استغلاله فيما ينفعه في دار القرار ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله في المعاصي والسيئات حتى لقي الله على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، وكم حسرة تحت التراب، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله، وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سبباً في هلاكه قال ابن مسعود  : (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا قَالَ أَبُو شِهَابٍ بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِه)1ِ، وكم شخص أصر على صغيرة فألفها، وهانت عليه، ولم يفكر يوماً في عظمة من عصاه، فكانت سبباً في سوء خاتمته فعن أنس  قال: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر؛ إن كنا لنعدها على عهد النبي  من الموبقات)2.

لقد أمر الله  عباده المؤمنين بالتقوى، وحذرهم أن يموتوا على غير الإسلام فقال – تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ3، وأمر  نبيه  بقوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ4 “أي استمر في جميع الأوقات على التقرب إلى الله بأنواع العبادات، فامتثل  أمر ربه، فلم يزل دائباً في العبادة، حتى أتاه اليقين من ربه  تسليماً كثيراً”5.

وبعض الناس يجتهد في الطاعات، ويبتعد عن المعاصي؛ مدة طويلة من عمره، ولكن قبيل وفاته يقترف السيئات والمعاصي مما يكون سبباً في أن يختم له بخاتمة السوء والعياذ بالله فعَنْ سَهْلٍ بن سعد  قَالَ: الْتَقَى النَّبِيُّ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَاقْتَتَلُوا فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالُوا: أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: لَأَتَّبِعَنَّهُ فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ، حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ  فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ!! فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة6ِ وفي بعض الروايات زيادة: وإنما الأعمال بالخواتيم7.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود  قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ  وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ: بِرِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ أَوْ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ؛ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا قَالَ: آدَمُ إِلَّا ذِرَاعٌ8.

وقد يقال: كيف يعمل العامل، ويتقي المتقي، ويجتهد المجتهد، فإذا بلغت الروح الحلقوم سبق عليه الكتاب، وخسر عمله؟ وكيف يفجر الفاجر، ويظلم الظالم، وينتهك الأرض، ويلعب بالدمـاء، ويضيّع الصلوات ، ويلعب بالمحرمات، فإذا وصل إلى السكرة أُدخل الجنة؟ والجواب أن يقال: معنى الحديث أنه يعمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس كما هو مبين في قول النبي  فيما يبدو للناس، وإلا ففي باطنه حيّات وعقارب وظلم أسود، ويعمل بعمل أهل النار فيما يظهر للناس وإلا ففي قلبه خير كثير، وله خفيه من عمل صالح يكشفها الله في سكرة الموت، فالمعنى أن بعض الناس أظهر للناس جميلاً، ولله أظهر الخبيث، فلما حصحص الحق، وأتت ساعة الصفر؛ ظهر القبح، وآخر صالح ولكن ظن الناس أنه سئ لكنه تاب، وعمل خيراً، فالله لم يخذله والله يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ9، ويقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ10 يقول العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله -: “يخبر – تعالى – عن أوليائه، وفي ضمن ذلك تنشيطهم، والحث على الاقتداء بهم فقال: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا أي: اعترفوا ونطقوا، ورضوا بربوبية الله – تعالى -، واستسلموا لأمره، ثم استقاموا على الصراط المستقيم علمًا وعملاً فلهم البشرى في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ الكرام أي: يتكرر نزولهم عليهم، مبشرين لهم عند الاحتضار أَلا تَخَافُوا على ما يستقبل من أمركم، وَلا تَحْزَنُوا على ما مضى، فنفوا عنهم المكروه الماضي والمستقبل، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فإنها قد وجبت لكم وثبتت، وكان وعد الله مفعولاً”11. فالعمل في الظاهر قد يكون بالنسبة إلينا عظيماً، لكن عند الله شيء آخر باعتبار النهاية، باعتبار الشيء الخفي الذي يكون في قلب صاحبه ونحن لا ندركه في الظاهر، والله يعلمه. فمن ختم له بخير فقد أفلح ونجح، ومن ختم له بشر فقد خاب وخسر والعياذ بالله، فعلى كل مسلم أن يخاف من سوء الخاتمة، وأن يسأل الله ​​​​​​​ الثبات على الدين حتى الممات، وعليه أن يحرص على العمل بأسباب الثبات؛ عسى الله أن يوفقه لذلك، والحمد لله رب العالمين.


1 صحيح البخاري (6308).

2 صحيح البخاري (6127).

3 سورة آل عمران (102).

4 سورة الحجر (99).

5 تفسير السعدي (1/435).

6 أخرجه الإمام البخاري (2898).

7 المصدر نفسه (6493).

8 أخرجه الإمام البخاري (6594)، والإمام مسلم (2694) واللفظ للبخاري.

9 سورة العنكبوت (69).

10 سورة فصلت (30).

11 تفسير السعدي (1/748).