الأسود العنسي (الكذاب)
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وهدى من شاء من خلقه فبصره بطريق الحق توفيقاً منه وتسديداً، وأضل من شاء منهم فجعله عن أبواب الرحمة طريداً، وصلى الله على عبده وخاتم أنبيائه ورسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً.. أما بعد:
فإن الله تعالى ختم النبوة والرسالة بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فهو خاتم النبيين وسيد ولد آدم. وقد دلت الدلائل الشرعية على أنه أفضل الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام جميعاً، ولما كان من سنة الله تعالى الكونية الابتلاء ووقوع الفتن بين الناس والاختلاف ليعلم الله الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سيظهر بعده كذابون يدعون النبوة، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله) رواه البخاري ومسلم واللفظ له، وعند أبي داود والترمذي: (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي).
وكان ممن تنبأ في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، كما روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: بلغنا أن مسيلمة الكذاب قدم المدينة فنزل في دار بنت الحارث، وكان تحته بنت الحارث بن كريز، وهي أم عبد الله بن عامر، فأتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وهو الذي يقال له خطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضيب فوقف عليه فكلمه فقال له مسيلمة: إن شئت خليت بيننا وبين الأمر ثم جعلته لنا بعدك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أريت، وهذا ثابت بن قيس وسيجيبك عني) فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم.
قال عبيد الله بن عبد الله: سألت عبد الله بن عباس عن رؤيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي ذكر، فقال ابن عباس: ذكر لي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (بينا أنا نائم أريت أنه وضع في يدي سواران من ذهب ففُظِعْتُهما وكرهتهما فأذن لي فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان) فقال عبيد الله: أحدهما العنسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر مسيلمة الكذاب. رواه البخاري.
وسيكون الموضوع هذا في الكلام عن الأسود العنسي وما آل إليه أمره:
الأسود العنسي: اسمه عبهلة بن كعب بن غوث، من بلد يقال لها كهف حنان.
بداية سلطانه وحكمه:
خرج الأسود في سبعمائة مقاتل وكتب إلى عمال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أيها المتمردون علينا أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم، فنحن أولى به وأنتم على ما أنتم عليه". ثم ركب فتوجه إلى نجران فأخذها بعد عشر ليال من مخرجه، ثم قصد إلى صنعاء فخرج إليه شهر بن باذام فتقاتلا فغلبه الأسود وقتله وكسر جيشه من الأبناء، واحتل بلدة صنعاء لخمس وعشرين ليلة من مخرجه، ففر معاذ بن جبل من هنالك، واجتاز بأبي موسى الأشعري فذهبا إلى حضرموت، وانحاز عمال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الطاهر، ورجع عمر بن حرام وخالد بن سعيد بن العاص إلى المدينة، واستوثقت اليمن بكمالها للأسود العنسي، وجعل أمره يستطير استطارة الشرارة، وكان جيشه يوم لقي شهراً سبعمائة فارس، وأمراؤه قيس بن عبد يغوث ومعاوية بن قيس، ويزيد بن محرم بن حصن الحارثي، ويزيد بن الأفكل الأزدي. واشتد ملكه واستغلظ أمره، وارتد خلق من أهل اليمن، وعامله المسلمون الذين هناك بالتقية، وكان خليفته على مذحج عمرو بن معدي كرب، وأسند أمر الجند إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز الديلمي وداذويه، وتزوج بامرأة شهر بن باذام، وهي ابنة عم فيروز الديلمي، واسمها زاذ، وكانت امرأة حسناء جميلة، وهي مع ذلك مؤمنة بالله ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن الصالحات، قال سيف بن عمر التميمي.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوجه جنوده لقتال الأسود الكذاب:
وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابه حين بلغه خبر الأسود العنسي مع رجل يقال له: وبر بن يحنس الديلمي، يأمر المسلمين الذين هناك بمقاتلة الأسود العنسي ومصاولته، وقام معاذ بن جبل بهذا الكتاب أتم القيام، وكان قد تزوج امرأة من السكون يقال لها: رملة، فحزبت عليه السكون لصبره فيهم، وقاموا معه في ذلك، وبلغوا هذا الكتاب إلى عمال النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن قدروا عليه من الناس، واتفق اجتماعهم بقيس بن عبد يغوث أمير الجند، وكان قد غضب على الأسود واستخف به وهم بقتله، وكذلك كان أمر فيروز الديلمي قد ضعف عنده أيضاً، وكذا داذويه، فلما أعلم وبر بن نحيس قيس بن عبد يغوث وهو قيس بن مكشوح كان كأنما نزلوا عليه من السماء، ووافقهم على الفتك بالأسود، وتوافق المسلمون على ذلك، وتعاقدوا عليه، فلما أيقن ذلك في الباطن اطلع شيطان الأسود للأسود على شيء من ذلك، فدعا قيس بن مشكوح فقال له: يا قيس ما يقول هذا؟ قال: وما يقول؟ قال: يقول: عمدت إلى قيس فأكرمته حتى إذا دخل منك كل مدخل وصار في العز مثلك مال ميل عدوك، وحاول ملكك، وأضمر على الغدر، إنه يقول: يا أسود يا أسود، يا سوآه يا سوآه، فطف به وخذ من قيس أعلاه وإلا سلبك وقطف قلبك، فقال له قيس وحلف له فكذب، وذي الخمار لأنت أعظم في نفسي وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي، فقال له الأسود: ما إخالك تكذب الملك، فقد صدق الملك وعرف الآن أنك تائب عما اطلع عليه منك، ثم خرج قيس من بين يديه فجاء إلى أصحابه فيروز وداذويه وأخبرهم بما قال له ورد عليه، فقالوا: إنا كلنا على حذر فما الرأي؟ فبينما هم يشتورون إذ جاءهم رسوله فأحضرهم بين يديه فقال: ألم أشرفكم على قومكم؟ قالوا: بلى، قال: فماذا يبلغني عنكم؟ فقالوا: أقلنا مرتنا هذه، فقال: لا يبلغني عنكم، فأقيلكم، قال: فخرجنا من عنده ولم نكد وهو في ارتياب من أمرنا ونحن على خطر، فبينما نحن في ذلك إذ جاءتنا كتب من عامر بن شهر أمير همدان وذي ظليم وذي كلاع وغيرهم من أمراء اليمن، يبذلون لنا الطاعة والنصر على مخالفة الأسود، وذلك حين جاءهم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحثهم على مصاولة الأسود العنسي، فكتبنا إليهم ألا يحدثوا شيئاً حتى نبرم الأمر.
تدبير خطة لاغتيال الأسود العنسي الكذاب:
قال قيس: فدخلت على امرأته زاذ فقلت: يا ابنة عمي قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك، قتل زوجك وطأطأ في قومك القتل، وفضح النساء، فهل عندك ممالأة عليه؟ قالت: على أي أمر؟ قلت: إخراجه، قالت: أو قتله؟ قلت: أو قتله، قالت: نعم والله ما خلق الله شخصاً هو أبغض إلي منه، فما يقوم لله علي حق ولا ينتهي له عن حرمة، فإذا عزمتم أخبروني أعلمكم بما في هذا الأمر، قال: فأخرجُ فإذا فيروز وداذويه ينتظراني يريدون أن يناهضوه، فما استقر اجتماعه بهما حتى بعث إليه الأسود فدخل في عشرة من قومه، فقال: ألم أخبرك بالحق وتخبرني بالكذابة، إنه يقال: يا سوأة يا سوأة إن لم تقطع من قيس يده يقطع رقبتك العليا، حتى ظن قيس أنه قاتله فقال: إنه ليس من الحق أن أهلك وأنت رسول الله، فقتلي أحب إلي من موتات أموتها كل يوم، فرق له وأمره بالانصراف، فخرج إلى أصحابه فقال: اعملوا عملكم، فبينما هم وقوف بالباب يشتورون إذ خرج الأسود عليهم وقد جمع له مائة ما بين بقرة وبعير، فقام وخط وأقيمت من ورائه وقام دونها فنحرها غير محبسة ولا معلقة، ما يقتحم الخط منها شيء، فجالت إلى أن زهقت أرواحها، قال قيس: فما رأيت أمراً كان أفظع منه ولا يوماً أوحش منه! ثم قال الأسود: أحق ما بلغني عنك يا فيروز؟ لقد هممت أن أنحرك فألحقك بهذه البهيمة، وأبدى له الحربة! فقال له فيروز: اخترتنا لصهرك وفضلتنا على الأبناء، فلو لم تكن نبياً ما بعنا نصيبنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الآخرة والدنيا، فلا تقبل علينا أمثال ما يبلغك، فأنا بحيث تحب! فرضي عنه وأمره بقسم لحوم تلك الأنعام، ففرقها فيروز في أهل صنعاء ثم أسرع اللحاق به، فإذا رجل يحرضه على فيروز ويسعى إليه فيه، واستمع له فيروز، فإذا الأسود يقول: أنا قاتله غدا وأصحابه فاغد علي به، ثم التفت فإذا فيروز، فقال: مه! فأخبره فيروز بما صنع من قسم ذلك اللحم فدخل الأسود داره ورجع فيروز إلى أصحابه فأعلمهم بما سمع وبما قال وقيل له، فاجتمع رأيهم على أن عاودوا المرأة في أمره، فدخل أحدهم وهو فيروز إليها فقالت: إنه ليس من الدار بيت إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت، فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطريق، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه من دون الحرس وليس من دون قتله شيء، وإني سأضع في البيت سراجاً وسلاحاً، فلما خرج من عندها تلقاه الأسود فقال له: ما أدخلك على أهلي! ووحأ رأسه وكان الأسود شديداً، فصاحت المرأة فأدهشته عنه، ولولا ذلك لقتله، وقالت: ابن عمي جاءني زائراً، فقال: اسكتي لا أبالك، قد وهبته لك، فخرج على أصحابه فقال: النجاء النجاء، وأخبرهم الخبر، فحاروا ماذا يصنعون! فبعثت المرأة إليهم تقول لهم: لا تنثنوا عما كنتم عازمين عليه، فدخل عليها فيروز الديلمي فاستثبت منها الخبر، ودخلوا إلى ذلك البيت فنقبوا داخله بطائن ليهون عليهم النقب من خارج ثم جلس عندها جهرة كالزائر، فدخل الأسود فقال: وما هذا؟ فقالت: إنه أخي من الرضاعة، وهو ابن عمي، فنهره وأخرجه.
تنفيذ الخطة:
خرج فيروز إلى أصحابه فلما كان الليل نقبوا ذلك البيت فدخلوا فوجدوا فيه سراجاً تحت جفنة، فتقدم إليه فيروز الديلمي والأسود نائم على فراش من حرير قد غرق رأسه في جسده، وهو سكران يغط، والمرأة جالسة عنده، فلما قام فيروز على الباب أجلسه شيطانه وتكلم على لسانه وهو مع ذلك يغط! فقال: مالي ومالك يا فيروز، فخشي إن رجع يهلك وتهلك المرأة، فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل، فأخذ رأسه فدق عنقه، ووضع ركبتيه في ظهره حتى قتله، ثم قام ليخرج إلى أصحابه ليخبرهم فأخذت المرأة بذيله، وقالت: أين تذهب عن حرمتك، فظنت أنها لم تقتله، فقال: أخرج لأعلمهم بقتله، فدخلوا عليه ليحتزوا رأسه، فحركه شيطانه، فاضطرب فلم يضبطوا أمره، حتى جلس اثنان على ظهره وأخذت المرأة بشعره وجعل يبربر بلسانه، فاحتز بلسانه، فاحتز الآخر رقبته فخار كأشد خوار ثور سمع قط، فابتدر الحرس إلى المقصورة فقالوا: ما هذا؟ ما هذا؟ فقالت المرأة: النبي يوحي إليه! فرجعوا وجلس قيس داذويه وفيروز يأتمرون كيف يعلمون أشياعهم، فاتفقوا على أنه إذا كان الصباح ينادون بشعارهم الذي بينهم وبين المسلمين.
إعلان الخلاص من المتنبئ الكذاب:
فلما كان الصباح قام أحدهم وهو قيس على سور الحصن فنادى بشعارهم، فاجتمع المسلمون والكافرون حول الحصن، فنادى قيس -ويقال وبر بن يحنش- الأذان: أشهد أن محمداً رسول الله، وأن عبهلة كذاب. وألقى إليهم رأسه، فانهزم أصحابه، وتبعهم الناس يأخذونهم ويرصدونهم في كل طريق، يأسرونهم وظهر الإسلام وأهله، وتراجع نواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أعمالهم، وتنازع أولئك الثلاثة في الإمارة، ثم اتفقوا على معاذ بن جبل يصلي بالناس.
البشائر تبلغ المدينة المنورة:
وكتبوا بالخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد أطلعه الله على الخبر من ليلته؛ كما ورد عن ابن عمر: أتى الخبر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي ليبشرنا، فقال: "قُتل العنسي البارحة، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين".
وقد قيل: إن مدة ملكه منذ ظهر إلى أن قتل ثلاثة أشهر، ويقال أربعة أشهر فالله أعلم،
الخبر يبلغ أهل اليمن بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه صاعقة:
قال سيف بن عمر عن المستنير عن عروة عن الضحاك عن فيروز قال: قتلنا الأسود وعاد أمرنا في صنعاء كما كان، إلا أنا أرسلنا إلى معاذ بن جبل فتراضينا عليه، فكان يصلي بنا في صنعاء، فوالله ما صلى بنا إلا ثلاثة أيام؛ حتى أتانا الخبر بوفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانتقضت الأمور، وأنكرنا كثيراً مما كنا نعرف، واضطربت الأرض.
قال ابن كثير: وقد قدمنا أن خبر العنسي جاء إلى الصديق في أواخر ربيع الأول بعد ما جهز جيش أسامة، وقيل: بل جاءت البشارة إلى المدينة صبيحة توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأول أشهر، والله أعلم. والمقصود أنه لم يجئهم فيما يتعلق بمصالحهم واجتماع كلمتهم وتأليف ما بينهم، والتمسك بدين الإسلام إلا الصديق -رضي الله عنه-، وسيأتي إرساله إليهم من يمهد الأمور التي اضطربت في بلادهم ويقوي أيدي المسلمين ويثبت أركان دعائم الإسلام فيهم -رضي الله عنهم-".1
حال الناس في اليمن بعد مقتل الأسود ووفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي زمن خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-:
قال الحافظ بن كثير رحمه الله: وأما أهل اليمن فقد قدَّمنا أن الأسود العنسي -لعنه الله- لما نبغ باليمن أضل خلقاً كثيراً من ضعفاء العقول والأديان، حتى ارتد كثير منهم أو أكثرهم عن الإسلام، وأنه لما قتله الأمراء الثلاثة: قيس بن مكشوح، وفيروز الديلمي، وداذويه، وكان ما قدمنا ذكره، ولما بلغهم موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ازداد بعض أهل اليمن فيما كانوا فيه من الحيرة والشك -أجارنا الله من ذلك- وطمع قيس بن مكشوح في الإمرة باليمن، فعمل لذلك، وارتد عن الإسلام! وتابعه عوام أهل اليمن، وكتب الصِّديِّق إلى الأمراء والرؤساء من أهل اليمن أن يكونوا عونا إلى فيروز والأبناء على قيس بن مكشوح؛ حتى تأتيهم جنوده سريعاً، وحرص قيس على قتل الأميرين الأخيرين، فلم يقدر إلا على داذويه، واحترز منه فيروز الديلمي، وذلك أنه عمل طعاماً وأرسل إلى داذويه أولاً فلما جاءه عجل عليه فقتله، ثم أرسل إلى فيروز ليحضر عنده، فلما كان ببعض الطريق سمع امرأة تقول لأخرى: وهذا أيضاً والله مقتول كما قتل صاحبه! فرجع من الطريق وأخبر أصحابه بقتل داذويه وخرج إلى أخواله خولان، فتحصن عندهم وساعدته عقيل وعك وخلق، وعمد قيس إلى ذراري فيروز وداذويه والأبناء فأجلاهم عن اليمن، وأرسل طائفة في البر وطائفة في البحر، فاحتد فيروز فخرج في خلق كثير فتصادف هو وقيس فاقتتلوا قتالاً شديداً، فهزم قيساً وجنده من العوام وبقية جند الأسود العنسي، فهزموا في كل وجه، وأسر قيس وعمرو بن معدي كرب، وكان عمرو قد ارتد أيضاً، وبايع الأسود العنسي، وبعث بهما المهاجر بن أبي أمية إلى أبي بكر أسيرين، فعنفهما وأنبهما فاعتذرا إليه، فقبل منهما علانيتهما ووكل سرائرهما إلى الله عز وجل، وأطلق سراحهما، وردهما إلى قومهما، ورجعت عمال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين كانوا باليمن إلى أماكنهم التي كانوا عليها في حياته عليه السلام، بعد حروب طويلة لو استقصينا إيرادها لطال ذكرها، وملخصها: أنه ما من ناحية من جزيرة العرب إلا وحصل في أهلها ردة لبعض الناس، فبعث الصديق إليهم جيوشاً وأمراء يكونون عوناً لمن في تلك الناحية من المؤمنين، فلا يتواجه المشركون والمؤمنون في موطن من تلك المواطن إلا غلب جيش الصديق لمن هناك من المرتدين، ولله الحمد والمنة، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغنموا مغانم كثيرة، فيتقوون بذلك على من هنالك، ويبعثون بأخماس ما يغنمون إلى الصديق فينفقه في الناس، فيحصل لهم قوة أيضاً ويستعدون به على قتال من يريدون قتالهم من الأعاجم والروم، على ما سيأتي تفصيله، ولم يزل الأمر كذلك حتى لم يبق بجزيرة العرب إلا أهل طاعة لله ولرسوله، وأهل ذمة، من الصِّديِّق، كأهل نجران وما جرى مجراهم، ولله الحمد، وعامة ما وقع من هذه الحروب كان في أواخر سنة إحدى عشرة وأوائل سنة ثنتي عشرة.2
دروس وعبر مما غبر:
1. فضح الله تعالى أدعياء النبوة، وإهلاكهم في القريب العاجل، وسبحان الله! فما ظهروا في مكان ولا زمان إلا أجرى الله عليهم أليم عقابه، وشديد عذابه، في الدنيا قبل الآخرة.
2. التخطيط الرهيب في قتال أعداء الله ورسوله، والحنكة الظاهرة التي برزت في من قتل الأسود، والدهاء الخارق الذي أخرجهم من كل معضلة كادت تطيح برقابهم على يد الأسود الكذاب، وهذا كله بعد توفيق الله ورعايته وعونه، فله الحمد وله الشكر كثيراً طيباً مباركاً فيه.
3. على المسلم أن يسأل الله تعالى الثبات على دينه وحسن الخاتمة، وألا يغتر بما هو عليه من الصلاح والإسلام والإيمان، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، كما أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-. وهنا نجد رجلين ممن كانا من أنصار الدين وحماة الملة وهما قيس بن مكشوح، وعمرو بن معدي كرب، غرهما الشيطان الرجيم فارتدا عن الإسلام، لكن الله منّ عليهما بالإسلام رحمة منه ولطفاً وحلماً وتوفيقاً.
4. فضيلة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ظهرت في حماية حمى الدين، وصيانة ديار المسلمين من كل جبار أثيم وشيطان رجيم، حيث تولى بنفسه قتال المرتدين، وإخضاعهم لدين الخالق العظيم، وتصفية أتباع الأسود العنسي وتطهير الأرض منهم، وإعادة الأمور إلى نصابها.
نسأل الله بقدرته وقوته أن يعز الدين وينصر المجاهدين في كل مكان وزمان، وأن يعلي كلمته ويرفع راية الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.