إسبال الثياب

إسـبال الثياب

إسـبال الثياب

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد بن عبد الله قائد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله -تبارك وتعالى- قد أنعم على خلقه بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} سورة إبراهيم(34)؛ ومن هذه النعم التي أنعم الله بها على خلقه نعمة اللباس؛ يقول الله ممتناً على عباده: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} سورة الأعراف(26)، وقال تعالى في منافع ما خلق من الحيوانات وغيرها: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ*وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} سورة النحل(80-81).   

وقد جاءت النصوص الصحيحة الصريحة بإباحة جميع الألبسة إلا ما ورد الدليل بتحريمه لذاته، أو لأنه لبس على هيئة تخالف الصفة الشرعية؛ ومن ذلك إسبال الثياب، وقد جاءت نصوص السنة الصحيحة بتحريم إسبال الرجال للثياب، فمن ذلك ما جاء في الحديث:

عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة). فقال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنك لن تصنع ذلك خُيلاء)1. وعند الإمام أحمد: عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة) قال زيد: وكان ابن عمر يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه وعليه إزار يتقعقع يعني جديداً فقال: (من هذا؟) فقلت: أنا عبد الله، فقال: (إن كنت عبد الله فارفع إزارك) قال: فرفعته، قال: (زد) قال: فرفعته حتى بلغ نصف الساق، قال: ثم التفت إلى أبي بكر فقال: (من جر ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) فقال أبو بكر: إنه يسترخي إزاري أحياناً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لست منهم)2.

معاني المفردات:

(جر ثوبه) أطال ثوبه حتى جرَّه على الأرض. (خيلاء) أي كبرا وتبخترا.

(يسترخي) يميل على الأرض، وسبب استرخائه نحافة جسم أبي بكر.

(أتعاهد) من التعاهد، وهو بمعنى الحفظ الرعاية، أي أنه ينتبه لثوبه ويرفعه.

شرح الحديث:

للباس آداب إذا حافظ المسلم عليها فقد حافظ على جانب عظيم من الأخلاق؛ ومن تلكم الآداب: رفع الثياب عن الأرض، والاقتصاد في طولها وعرضها ولينها وثمنها.

وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلبس من الثياب ما تيسر، إزار وقميص وجبة وعمامة ورداء، ويحب الأبيض من الثياب لنظافته، وخفة مؤنته، ولا يحرم غيره، ولا يبالي بلبس أسود ولا أحمر إلا الثياب المزعفرة والمعصفرة فيبغضها وينهى الصحابة عن لبسها، ولا يحرم من القماش إلا الحرير على الرجال فقط، وقد رخص فيه للحاجة، وأذن في القليل منه، وأباحه للنساء مطلقاً، وقال لأصحابه: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالط إسراف ولا مخيلة"3. وعد إسبال الثياب من الكبر، وحرم ما جاوز الكعبين.

ودخل غلام على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعد ما طُعن، فهنأه بالشهادة وسابقته في الإسلام، ثم خرج من عنده وطرف إزاره يمس الأرض، فدعاه عمر وقال له: وهو يعالج سكرات الموت: يا غلام ارفع إزارك فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك"4..

فهم خاطئ:

لقد فهم بعض الناس نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسراف، والغلو في اللباس؛ أن التجمل كله حرام، وصاحبه متكبر، وهذا ليس فهماً صحيحاً للأحاديث التي تنهى عن التكبر والتبختر في اللباس، بل المقصود هو ما بينه النبي -صلى الله عليه – حينما قال له أحد أصحابه: يا رسول الله إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، فأقر ذلك، وأخبره أنه ليس من الكبر، وبين له ما هو الكبر، فقال: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس)5.

وقال الشاعر:

والكبر غمط الناس والبطر الذي *** يودي بصاحبه فيهلك جائعاً

ومن التجارب أن داء الكبر لو *** بلي الشديد به لأصبح مائعاً

لباس المرأة المسلمة:

ليس في الإسلام ما يدل على الاختصاص بلبس خاص، ولا حرج على أحد في أن يلبس ما شاء وكيفما شاء، إلا أنه يحرم تشبه الرجال بالنساء، وتشبه النساء بالرجال، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وكان الصحابة يجتمعون وفيهم العاري والكاسي والمعمم والأقرع والمنتعل والحافي، والمدهن والأشعث، ولا يعاب أحد على شيء من ذلك إلا النساء، فيجب عليهن ستر أبدانهن، وإخفاء زينتهن إلا ما ظهر منها، غير متبرجات بزينة، ولا متعرضات لفتنة.

ودخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصح أن يرى منها إلا هذا) وأشار إلى وجهه وكفيه6.

وأمر أسامة بن زيد أن تجعل زوجته تحت ثوبها الرقيق غلالة تمنع من رؤية البشرة وحكاية حجم الأعضاء، ومن الشر والبلاء ما حصل اليوم من خروج المرأة عن الفضيلة، وتشبه المسلمة بغير المسلمة في السفور، وتبرج الجاهلية بالملابس الفاضحة القصيرة الشفافة المشار إليها بقول الشاعر:

لبست من الأثواب ثوباً فاضحاً *** فغدت تميس بثوبها الشفاف

يحكي عجيزتها ويحكي صدرها *** ويبين منها كل شيء خافي

وقد أشار إلى ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)7.

فعلام تكونين أيتها المسلمة من أهل النار، وتخرجين عن آداب دينك، وتقاليد قومك بهذه الأزياء الخبيثة، والملابس الملعونة، وأنت العفيفة الطاهرة الظاهرة الصالحة القانتة الحافظة للغيب بما حفظ الله!

وأنت أيضاً ترين النساء الهنديات، والصينيات واليابانيات وغيرهن متحفظات بعاداتهن، وكرامة قومهن وبلادهن، وإنما يجرف السيل ما خبث وخف، وليس إلا الشعوب الضعيفة المغلوبة على أمرها تسير وراء مدنية الغرب، وتقليد الأقوياء في النقائص والرذائل، ويجرفها السيل إلى البحر، وتدفعها الهمجية إلى الهاوية: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ}8 . سورة الرعد(17).

الإسبال في الثياب كبيرة من كبائر الذنوب:

إن الإسبال في الثياب تكبراً وفخراً وخيلاء أمر محرم شرعاً ومكروه طبعاً، بل إنه من كبائر الذنوب المتوعد صاحبها بالنار إن لم يتب منها في الحياة الدنيا، فإن مات مصراً على ذلك فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وقد عدها العلماء في الكبائر، وقد صرحت الأحاديث بالوعيد الشديد على ذلك؛ قال ابن حجر-رحمه الله-: "وفي هذه الأحاديث -وذلك بعد أن ذكر الأحاديث في ذلك- أن إسبال الإزار للخيلاء كبيرة، وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضاً"9..

وقد استند العلماء في عدهم لذلك من الكبائر إلى نصوص السنة الصحيحة؛ فعن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إِليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم). قال: فقرأها رسول اللَّه –صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول اللَّه؟ قال: (المسبل، والمنان، وَالمنفِّق سلعته بالحَلف الكاذب)10. وفي رواية: (المسبل إزاره)11. والمسبل: هو الذي يطول ثوبه ويرسله إلى الأرض كأنه يفعل ذلك تجبرا واختيالاً.

وأما من لم يقصد الخيلاء فإنه قد ورد في حقه من العقوبة أنه يعذب بقدر ما نزل من الكعبين في النار؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار)12. ولم يقيد ذلك بالفخر والخيلاء بل أطلق..

وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بحجزة سفيان بن أبي سهل، فقال: (يا سفيان لا تسبل إزارك فإن الله لا يحب المسبلين)13.

الرد على من جوز الإسبال من غير قصد الخيلاء:

أما من احتج بحديث أبي بكر السابق وما جاء في استرخاء ثوبه عليه؛ فيجاب عن ذلك بأنه ليس في هذه القصة حجة من وجهين:

الأول: أن أبا بكر -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ أحد شقي ثوبي يسترخي إِلاَّ أن أتعاهد ذلك منه" فهو لم يرخِ ثوبه اختيالاً منه، بل كان ذلك يسترخي ومع ذلك فهو يتعاهده، والذين يسبلون ويزعمون أنهم لم يقصدوا الخيلاء يرخون ثيابهم عن قصد فنقول لهم: إن قصدتم إنزال ثيابكم إلى أسفل من الكعبين بدون قصد الخيلاء عذبتم على ما نزل فقط بالنار، وإن جررتم ثيابَكم خيلاء عذبتم بما هو أعظم من ذلك لا يكلمكم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليكم، ولا يزكيكم، ولكم عذابٌ أليم..

الوجه الثاني: أن أبا بكر -رضي الله عنه- زكَّاه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وشهد له أَنَّه ليس ممن يصنع ذلك خيلاء، فهل نال أحدٌ من هؤلاء تلك التزكية والشهادة؟ ولكن الشيطان يفتح لبعض النَّاس اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسنة، ليبرر لهم ما كانوا يعملون14..

هل الإسبال يكون في الثوب فقط؟

الإسبال ليس مقتصراً على الثوب فقط، بل يكون في الثوب وفي الإزار والقميص والعمامة؛ وما في معنى ذلك من الملابس؛ فعن ابن عمر-رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الإسبال في الإزار والقميص والعمامة؛ من جرّ شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)15، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: ما قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في الإزار فهو في القميص16.

حالات طول الثوب والإزار وقصره:

طول الثوب والإزار للرجل وقصره له أربع حالات:

الحالة الأولى: أن يكون سنّة، وهو إلى نصف الساق.

الحالة الثانية: أن يكون مباحاً، وهو ما تحت نصف الساق إلى الكعبين، وما تحت الركبتين إلى نصف الساق.

الحالة الثالثة: أن يكون حراماً، وهو ما أسفل من الكعبين؛ لأنه منهي عنه بالنص، أو فوق الركبتين؛ لأنه يكشف العورة، وكشفها محرم.

الحالة الرابعة: أن يكون أشد حرمة، وهو أن يجرّه خيلاء وكبرا وبطراً؛ ويدل على هذه الحالات ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (إزْرَة المؤمن إلى  نصف الساق، ولا حرج فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في  النار، من جرّ إزاره بطراً لم ينظر الله إليه)17.

بعض الفوائد المستفادة من الحديث:

1. تحريم جر الثوب خيلاء، وجره إطالته تحت الكعبين، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار).

2.   أن الإسبال محرم مطلقاً سواء قصد به الخيلاء أو لم يقصدها به؛ لعموم الأدلة.

3.   أنه لابد على الإنسان من أن يتمسك بشرع الله، فلا يلبس إلا كما شرع الله، وإلا ما أحله الله..

4. فضيلة ومنقبة لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- حيث شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بما ينافي ما يكره.. وغير ذلك من الفوائد.

نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، ويجنبنا معصيته، ويرزقنا التمسك بسنة نبيه، ويحبب إلينا الطاعة والسنة، ويكره إلينا المعصية والبدعة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..


 


1 رواه البخاري ومسلم إلا أن مسلماً لم يذكر قصة أبي بكر.

2 مسند أحمد (ج 13 / ص 93).

3 رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح.

4 رواه البخاري.

5 رواه مسلم.

6 رواه أبو داود، وقال الألباني: "حسن لغيره"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(2045). وقد استدل بهذا الحديث من قال إن الوجه والكفين ليسا بعورة وأنه يجوز إظهارهما.. والقول الثاني: أن المرأة كلها عورة، وضعفوا هذا الحديث، واستدلوا بأدلة كثيرة على تغطية الوجه والكفين.. والمسألة خلافية مشهورة من عصر السلف.

7 رواه مسلم من حديث أبي هريرة.

8 إصلاح المجتمع، للبيحاني، صـ(337- 339). بتصرف.

9 فتح الباري(10/263) لابن حجر.

10  رواه مسلم وأبو داود.

11  رواه النسائي وابن ماجه وأحمد.

12 رواه البخاري.

13 رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه واللفظ له، وقال الألباني: "حسن لغير"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، (2039).

14  راجع: "فتاوى علماء البلد الحرام" صـ، (1138- 1140) إعداد خالد الجريسي. ط:1. (1420هـ).

15 رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وقال الألباني: "حسن"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، (2035).

16 رواه أبو داود، وقال الألباني: "حسن"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (2030 ).

17  روه أبو داود، وقال: الألباني: "صحيح"؛ كما في صحيح الجامع، رقم(921)