همم الرجال

 

همم الرجال !

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإنَّ الناس يختلفون ويتفاوتون في غاياتهم وأهدافهم، ويتفاوتون في هممهم التي توصلهم إلى تلك الغايات والأهداف؛ ومن نماذج الهمم الدنية والمقاصد السفلية قصة ذلك الأعرابي الذي اعترض النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلاً له: "مر لي من مال الله الذي عندك" كما في البخاري ومسلم عن أنس بن مالك.

فهذه همة دنيوية سفلية، وهناك همة سماوية علوية إنها همة ربيعة بن كعب الأسلمي كما في صحيح مسلم يقول ربيعة بن كعب: "كنت أبيت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: (سل) فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: (أو غير ذلك؟) قلت: هو ذاك، قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود).

فهمم الرجال تحلق في السماء وهمم أشباه الرجال تبقى سافلة، وإليك أيضاً قصة أخرى عن أولئك الرجال الذين حلقت هممهم في السماء: ثبت في الحديث الذي أخرجه النسائي وغيره: عن شداد بن الهاد -رضي الله عنه- أنَّ رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك؟ فأوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه، فلما كانت غزاته غنم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخذه فجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما هذا؟ قال: (قسمته لك) قال: ما على هذا اتبعتك ولكن اتبعتك على أن أرمي إلى هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال: (إن تصدق الله يصدقك) فلبثوا قليلا ثم نهضوا إلى قتال العدو فأتي به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أهو هو؟) قالوا: نعم، قال: (صدق الله فصدقه) ثم كفنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جبته التي عليه ثم قدمه فصلى عليه وكان مما ظهر من صلاته: (اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد على ذلك)1..

وكذلك قصة أخرى وهي قصة أنس بن النضر، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم عن ثابت قال: قال أنس: عمي الذي سميت به لم يشهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدرا قال: فشق عليه، قال: أول مشهد شهده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غيبت عنه وإن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليراني الله ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، قال: فشهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، قال: فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو أين؟ فقال: واها لريح الجنة أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتى قتل، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، قال: فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر فما عرفت أخي إلا ببنانه، ونزلت هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا سورة الأحزاب(23) قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه.

كذلك من هموم الرجال قصة جندي الإسلام الأول عمير بن الحمام، كما أرخ ذلك الإمام مسلم في صحيحه: عن أنس -رضي الله عنه- قال: انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر وجاء المشركون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه) فدنا المشركون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) قال يقول عمير بن الحمام الأنصاري -رضي الله عنه-: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: (نعم) قال: بخ بخ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما يحملك على قولك بخ بخ؟) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: (فإنك من أهلها) فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل.

هكذا هي همم الرجال: رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ سورة النــور (37).

فالواجب علينا أن نحبهم، فإن المرء مع من أحب يوم القيامة، وأن نقتدي بهم ونتشبه بأفعالهم الحميدة، كما قيل:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح

نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته، وأن يرزقنا لإخلاص في القول والعمل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 


1  رواه النسائي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(1336).