دور المسجد في الإعلام
الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، له العزة والكبرياء، وأجل الصفات وأحسن الأسماء، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، ثم الصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير رسله، وصفيه من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون، أما بعد:
فإن المتأمل في أدوار المسجد يلحظ أدواره البارزة في شتى الميادين، ومختلف المجالات، فأينما ذهب وجدها، وأينما نظر رآءها، فهي معه في حضره وسفره، وحله وترحاله، وقيامه وقعوده؛ وذلك لعظمتها، وعلو شأنها، وارتفاع قدرها، فهي القائمة بأدوارها السياسية والاقتصادية، والتعبدية والاجتماعية، والجهادية والإعلامية، ولعلنا بإذن الله أن نطل إطلالة بسيطة من هذه النافذة على دور المسجد في الإعلام الجهادي، من حيث إعلان البيانات العسكرية، والنتائج القتالية، وبشائر النصر، وشرح أحوال المعارك، وما يحدث للمسلمين من نصر أو هزيمة فيها، ومن ذلك على سبيل المثال: ما كتب نور الدين من الكتب التي أرسلها إلى الأقاليم لشرح ما لقي المسلمون من الفرنج، وما نالهم من القتل والأسر، فقرئت هذه الرسائل والكتب على المنابر في كل الممالك الإسلامية، مما يبين لنا أن المسجد هو المؤسسة الإعلامية الناجحة في تغطية الحدث، وتزويد المسلمين بالأخبار المستجدة على صعيد الحياة. ومن ذلك: لما دخل جنى الصفواني بلاد الروم سنة 306هـ، ومكنه الله منهم، فنهب وحرق، وفتح مدناً وحصوناً، فكتب بذلك إلى بغداد، فقرئت الكتب من على المنابر ببغداد1. وما حصل في سنة 314هـ عندما جاءت الكتب والرسائل بموت الدمستق – ملك النصارى -، وكان هذا الملك شديد الأذى بالمسلمين، شديد النكاية بهم، فقرئت الكتب بخبر موته من على المنابر، وفرح المسلمون بموته فرحاً شديد2.
كما كان عامة المسلمين الذين لم يخرجوا مع الجيش الإسلامي للقتال يجتمعون في المساجد، ويقرؤون القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، ويتضرعون إلى الله بالدعاء والبكاء، ويسألون الله أن ينصر جيش الإسلام، كما أن الخطباء في يوم الجمعة لا يتركون الدعاء للمجاهدين والغزاة بحال من الأحوال، بل يستمرون على هذا الحال في تضرع وبكاء، واستغاثة ودعاء، حتى يصلهم الخبر عن نتائج المعارك، فإن كان نصراً حمدوا الله، وأدو الصلاة شكراً لله، وإن كانت هزيمة لجئوا إلى الله أن يغفر لموتاهم، ويبدؤون بدراسة أسباب الخلل، ودواعي الهزيمة، ولايقنطون من رحمة ربهم، كما أن لعلماء المساجد وفقهائها الأثر البالغ في توجيه القادة، وتثبيتهم وتشجيعهم، مع لفت أنظار هولاء القادة إلى العامة الذين يدعون لهم – خاصة في يوم الجمعة -، ويبشرونهم أن الإجابة مقرونة بالدعاء، من ذلك:
ماحصل لمصر عندما حاصرها “الإفسيس” عام 469هـ، وضيق عليها، ولم يبق غير أن يملكها، فاجتمع أهلها مع ابن الجوهري الواعظ في الجامع، فقاموا بقراءة صحيح البخاري عدة مرات، وهتفوا بالتضرع والبكاء، ورفعوا الأكف الراغبة، والدعوات الصادقة إلى الحي القيوم، فدوَّت هذه الدعوات في عنان السماء حتى فتحت لها أبواب السماء، فأجاب الله الدعاء، ونزل النصر والمدد وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ3 فهزم “الإفسيس” من غير قتال، وعاد على أقبح صورة بغير سبب4. وكذلك ما حصل لمدينة دمشق من حصار من قبل الفرنج وهم في سبعين ألف مقاتل، ومعهم ملك الألمان في خلق لا يعلمهم إلا الله، فخرج إليهم أهلها في مائة وثلاثين ألفاً فاقتتلوا معهم قتالاً شديداً، قتل من المسلمين في أول يوم نحواً من مائتي رجل، ومن الفرنج خلق كثير لا يحصون، واستمرت الحرب مدةً، وكاد المسلمون أن يستسلموا، فما كان منهم إلا أن أخرجوا مصحف عثمان إلى صحن الجامع، واجتمع الناس حوله يدعون الله – عز وجل -، والنساء مكشوفات الرؤوس يدعون ويتباكون، والرماد مفروش في البلد، واستعان حينها أرتق – مدبر المملكة – بنور الدين محمود صاحب حلب، وبأخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل، فقاما بنجدته سريعاً، في نحو من سبعين ألفاً ممن أنضاف إليهم من الملوك وغيرهم، فلما سمعت الفرنج بقدوم الجيش تحولوا عن البلد، فلحقهم الجيش فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وجمعاً غفيراً، وسلم الله البلد وحماها بحوله وقوته، ثم بدعاء الصادقين والمخلصين من أهله5.
وكذا ما حدث لبلاد الإسلام عام 462هـ لما قصدها ملك الروم “رمانوس” في مائتي ألف من الروم والفرنج، والغرب والروس، والكرج وغيرهم من طوائف البلاد، وجاءوا في تجمل كثير، وزي عظيم، ووصلوا إلى أعمال أخلاط، وبلغ السلطان” ألب أرسلان” الخبر وهو بمدينة “خوى” من “أذربيجان” عائد من حلب، فقصد قتالهم بخمسة عشر ألف فارس، فلما تقارب العسكران أرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب المهادنة، فقال ملك الروم: لاهدنة إلا بالري، فانزعج السلطان لذلك، فقال له إمامه وفقيهه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي: “إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره، وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي يكون الخطباء فيها على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصرة، والإجابة مقرونة بالدعاء” فلما كانت تلك الساعة صلى بهم وبكى السلطان، فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، وقال لهم: “من أراد الانصراف فلينصرف، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى، وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض وتحنط، وقال: “إن قتلت فهذا كفني”، فزحف إلى الروم وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجل وعفر وجهه بالتراب، وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل وحملت العساكر معه، فحمل المسلمون في وسطهم، وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون فيهم كيف شاءوا، وأنزل الله نصره عليهم، وانهزم الروم، وقتل منهم ما لا يحصى حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى، وأسر ملك الروم6.
هذه لمحة بسيطة عن بعض الأدوار الإعلامية التي يقوم بها المسجد في الجانب الجهادي، وغيرها أكثر منها لايتسع المقام لاستقصائها وحصرها، وإنما قصدنا الإشارة والتذكير وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ7، إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ8، وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ9، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ10. اللهم أعد للأمة عزها، وانصرها على أعداءها، ويسر أمرها, والحمد لله رب العالمين.