الشعر وعلاقته بالمسجد

الشعر وعلاقته بالمسجد

الشعر وعلاقته بالمسجد

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، وخير داع إلى صراطه المستقيم، أما بعد:

فإننا إذا أردنا أن نتحدث عن المسجد وماله من علاقة بالشعر في جبين تاريخنا، وتراث حضارتنا؛ فلا بد من الحديث عن ثلاثة محاور أساسية.

الأول: لمحة عن الشعر والشعراء.

الثاني: مقاصد الشعر.

الثالث: علاقة الشعر بالمسجد، ومعرفة حكمه.

وإليك أخي القارئ الحديث عن كل محور على حده:

 

لمحة عن الشعر والشعراء:

من المعلوم أن الشعر كان هو الوسيلة الإعلامية المتميزة، والقناة الفضائية السريعة لنقل الإخبار؛ وتخليداً لمآثر؛ وذكر المراثي عند العرب لاسيما في عصر ما قبل الإسلام، فكانوا يعقدون له الاجتماعات، ويتوافدون له من كل حدب، إذا جاء الموسم؛ من أجل إحيائه بالإشعار بشتى أنواعها من رجز، ومدح، وذم، وهجاء، بل أصبح الشعر عندهم معياريه يتنافسون به، وبه يفصلون قضاياهم، ويفضون نزاعاتهم، ويحلون مشاكلهم، ووصلت أهميته عندهم إلى أن كان معياراً لرفع القبيلة وخفضها، من ذلك ما قاله أحد الشعراء في قبيلة من العرب تدعى "أنف الناقة"، وكانوا يتضجرون من هذا الاسم لأنه يشعر بالنقص، فقام هذا الشاعر أمام جمع غفير من الناس في الموسم لينفي العار عنهم قائلاً:

قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم            فمن يساوي بأنف الناقة الذنبَ

ومن ذلك الحين ارتفع قدر القبيلة، وعلا شأنها عند العرب؛ بسبب بيت من الشعر.

وهكذا ظل العرب يهتمون بالشعر في كل مجالات حياتهم، ويتفاخرون به، وكانوا يعتبرونه نوع من أنواع السلاح، وكتبوا في ذلك كتباً، وعقدوا من أجله مواسم، وصنفوا فيه تصانيف؛ منها:

المعلقات السبع، وكذا العشر، بل ماسُميت معلقات إلا لأنهم يعلقونها بجدار الكعبة من شدة الاهتمام بها، وتفننوا أيضاً في تسمية قصائدهم وأشعارهم، فهذه تدعى اليتيمة، وتلك الرائعة، وأخرى الحولية، وهكذا اشتهر كثير منهم في هذا المجال: كامرئ القيس، والنابغة، وزهير، والأعشى، ولذلك قال بعض الأدباء: "أشعر الناس امرؤ ألقيس إذا ركب، وزهير إذ رغب، والنابغة إذ أرهب، والأعشى إذ أشرب".

ثم توالى الاهتمام بالشعر في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي عصر الصحابة والتابعين؛ وإلى يومنا هذا وله مكانة في نفوس الشعراء، وعند أهل الذوق، فيه يراسلون الملوك، وهو ملحة المجالس، وفيه عذوبة القوافي، وقوة الحباكة.

 

مقاصد الشعر:

مما تقرر عند أهل العلوم والمعارف أن حسن الشئ وقبحه، وحله وحرمته؛ مداره على مقصده، فإن كان مقصده حسناً فهو حسن، وإن كان مقصده سيئاً فهو حرام، ولذالك علق النبي – صلى الله عليه وسلم – قبول الأعمال وردها على صلاح النيات وفسادها فقال: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى))، والشعر له مقاصد عدة، منها: الغزل، والمدح، والذم، والهجاء، والرثاء، والمراسلة، والمعاتبة… وغيرها.

وقد تقرر في علم الأصول أن الوسائل لها حكم المقاصد، فعلى هذا فإن الشعر إذا كان القصد منه مستحسن فإنه حسن، وإن كان غير ذلك فبحسب مقصده.

وإن أهم مقاصد الشعر الذي له علاقة بالمسجد ما يلي:

حض الشباب على العبادة وحَسَنِ الأخلاق، وتحميسهم ودفعهم إلى الجهاد في سبيل الله، وأن تنظم الأشعار ذات المعاني الجميلة، التي تتضمن حب الله ورسوله، وحب دين الإسلام وعباد الله الصالحين، والتي تتضمن الدفاع عن هذا الدين، ومهاجمة الأعداء، والذب عن الدين والملة، والترويح على النفس، وإظهار جماليات الإسلام، وإثارة العواطف، وتهييج المشاعر ضد الغاصب المحتل …وغيرها من المقاصد التي تليق ببيت رب العالمين.

 

علاقة الشعر بالمسجد ومعرفة أحكامه:

إن المتأمل في المسجد منذ نشأته الأولى يدرك أن له ارتباطاً وثيقاً بالشعر، كما يدرك أنه منتدىً شعرياً ترسل منه الكلمة الصادقة، والإلياذة الرائعة، فيه كتبت الأشعار، ومن على أعواد منبره ألقيت القصائد، ومنه تخرج الشعراء، وعُلقت على جدرانه المعلقات، ودرس الشعر بين سواريه، حكى المرزبانى في كتابه "الموشح" إن مسلم بن الوليد – رحمه الله – كان يملي شعره في المسجد وحوله الناس، وعقدت في أجوائه المناظرات الشعرية.

وروى صاحب كتاب "الأغاني" أن الكميت بن زيد وحماداً الراوية اجتمعا في مسجد الكوفة فتذاكرا أشعار العرب وأيامهم، فخالفه حماد في شيء ونازعه، فقال له الكميت: أتظن أنك أعلم مني بأيام العرب وأشعارها؟ قال: وما هو إلا الظن! هو والله اليقين، ثم تناظرا وتساءلا.

ومن علاقة الشعر بالمسجد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – جعل في مسجده منبراً لحسان – رضي الله عنه – روت عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو ينافح، ويقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -))1، قال  المحشّي: ولبعض هذا الحديث شواهد في الصحيحين من حديث البراء بن عازب – رضي الله عنه -.

فهذا يبين لنا مدى العلاقة بين الشعر والمسجد، بل أن هذه العلاقة ظلت وثيقة إلى عصر الصحابة والتابعين، فقد كان الشافعي يدرس الشعر في جامع عمرو في مصر، ونبغ على يده من المصريين كثير من زعماء الفكر والأدب منهم: أبو عمر الكندي، وأبو جعفر النحاس المصري، وأبو بكر الحداد … وكثيرون غيرهم، أما المتنبي فكان يعقد حلقاته الأدبية في مسجد ابن عمرو حيث يجتمع إليه الأدباء والشعراء.

 

أحكام الشعر:

إن الشعر باعتبار ذاته لا يعتريه إلا حكم واحد وهو الجواز، وإنما تختلف أحكامه باختلاف ألفاظه ومقاصده وقد ذهب العلماء فيه إلى قولين:

القول الأول: جواز إنشاد الشعر في المسجد وخارجه:

وأدلتهم ما يلي:

مدح الرسول – صلى الله عليه وسلم – الشعر كما روى أبي بن كعب – رضي الله عنه – قال: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن من الشعر حكمة))2، فقد دل هذا الحديث على أن من الشعر ما هو ممدوح، لأن الحكمة صفة مدح، والله – تعالى- يقول: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً3.

وقد كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – حادٍ حسنُ الصوت يحدو له في أسفاره يقال له "أنجشة"، وقال له ذات مرة: ((ويحك يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير))4 أي تمهل في حدائك بالإبل التي تسرع بالنساء، فيتأثرن من ذلك، أو أن صوتك يؤثر عليهن فأرفق بهن.

وارتجز هو – صلى الله عليه وسلم – عندما أصيبت إحدى أصابعه بسبب عثوره من إصابة حجر فقال:

هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت5

وكان في بعض أسفاره يطلب من رفيقه أن ينشده شيئاً من أشعار الجاهليين الذين يوافق شعرهم الإسلام، روى الشريد بن سويد الثقفي – رضي الله عنه – قال: "ردفت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوماً، فقال: ((هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء))؟ قلت: نعم!! قال: ((هيه)) فأنشدته بيتاً، فقال: ((هيه)) ثم أنشدته بيتاً، فقال: ((هيه)) حتى أنشدته مئة بيت، وفي رواية: أنه قال – صلى الله عليه وسلم -: ((فلقد كاد يُسلم في شعره))6.

وهذا جابر بن سمرة – رضي الله عنه – وهو من صغار الصحابة يقول: "شهدت النبي – صلى الله عليه وسلم – أكثر من مئة مرة في المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر، وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم معهم7.

والظاهر من هذا الحديث أن كثيراً من هذه المجالسة كان في مسجده – صلى الله عليه وسلم – بدليل حديث سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، كثيراً، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم8.

وكان عبد الله بن رواحه ينشد بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في عمرة القضاء فيقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله *** اليوم نضربكم على تنزيله

ضرباً يزيل الهام عن فصيله ***ويذهب الخليل عن خليله

فقال له عمر – رضي الله عنه -: يا ابن رو احة بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وفي حرم الله تقول الشعر؟! فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((خل عنه يا عمر فلهي أسرع فيهم من نضح النبل))9.

لقد أراد عمر – رضي الله عنه – أن يجعل من الأدب أمام رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وفي حرم الله؛ عدم إنشاد الشعر، ولكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمره أن يترك الشاعر وما يقول ليبين له أن الشعر النافع لا ضير أن ينشد في أي مكان، بل قد يكون إنشاده أولى كما هو الحال أمام أعداء الله.

ولعل عمر – رضي الله عنه – نسي هذا الدرس من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأنكر على حسان بن ثابت إنشاد الشعر في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فعاد حسان إلى تذكيره كما روى أبو هريرة – رضي الله عنه -: "أن عمر مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه شزراً، فقال: قد كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفتَ إلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((أجب عني، اللهم أيده بروح القدس)) فقال: اللهم نعم"10، فيتلخص لنا من مجموع هذه الأدلة جواز إنشاد الشعر في المسجد، لأنها صحيحة في أسانيدها، صريحة في دلالاتها.

 

القول الثاني: عدم جواز إنشاد الشعر:

وأدلتهم ما يلي:

حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – في ذم الشعر، فقد روى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه – أي يصيبه بمرض في رئته – خير له من أن يمتلئ شعراً))11، وروى حكيم بن حزام – رضي الله عنه – قال: "نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود"12.

 

الترجيح ودفع التعارض:

قد يتبادر إلى الذهن أن هناك ثمة تعارض بين أحاديث الجواز وأحاديث المنع مع أنها كلها صحيحة، فالجمع بينها أن العلماء قد وضعوا منهجاً للجمع بين ما ظهر فيه التعارض من النصوص فوضعوا له ثلاث مراتب:

1- الجمع بين الأدلة.

2- الترجيح إن تعذر الجمع.

3- التوقف إن تعذر الترجيح.

ونحن سنجمع بين الأدلة مرجحين القول الأول لصحة الأدلة، وصراحة دلالتها، فالذي مدح الشعر، وأذن للشعراء في الإنشاد في المسجد وخارجه؛ هو الذي ذم الشعر، ونهى عن إنشاده في المسجد، فأي شعر أذن فيه، وأي شعر نهى عنه وذمه؟!

فلا بد أن يكون المضمون مختلفاً، فالممدوح هو الذي يقصد به نصر دين الله، ولا يخالف شرعه، والمذموم هو الشعر المعارض لدين الله، أو الذي يبالغ فيه حتى يلهي عن ذكره ولو كان مباحاً.

وإن القرآن الكريم لهو الفيصل في هذا الأمر، فقد فرق بين ممدوح الشعر ومذمومه  قال – تعالى-: والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون13، قال الإمام الشافعي رحمه الله: "الشعر كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح"14، وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – وهو يتكلم على ما يظهر من تعارض بين الأحاديث الناهية عن إنشاد الشعر في المساجد والأحاديث الدالة على جواز إنشاده فيها: "فالجمع بينها وبين حديث الباب أن يحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين، والمأذون فيه ما سلم من ذلك"15، وقال ابن عبد البر – رحمه الله -: "وأما قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً)) فأحسن ما قيل في تأويله والله أعلم أنه الذي قد غلب الشعر عليه، فامتلأ صدره منه دون علم سواه، ولا شيء من الذكر غيره، ممن يخوض به في الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له كالمكثر من الهذر واللغط، والغيبة وقبيح القول، ولا يذكر الله كثيراً، وهذا كله مما اجتمع العلماء على معنى ما قلت منه، ولهذا قلنا فيما روي عن ابن سيرين والشعبي ومن قال بقولهما من العلماء: "الشعر كلام، فحسنه حسن، وقبيحة قبيح"، أنه قول صحيح وبالله التوفيق"16.

وفي الختام نسأل الله تعالى أن يعيننا على طاعته وذكره وحسن عبادته، والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.

والحمد لله رب العالمين.


 


1– أبو داود (5/280) الترمذي (5/138) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وهو في جامع الأصول (5/168)

2 – صحيح البخاري (5/2276).

3 – البقرة:269.

4– صحيح البخاري (5/2278) وصحيح مسلم (4/1811)

5 – صحيح البخاري (3/1031) وصحيح مسلم (3/1421)

6 – صحيح مسلم (4/1766).

7 – مسند أحمد (5/91) الترمذي (5/140) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

8 – مسلم (1/463)

9 – سنن النسائي (5/202) الترمذي (5/139) وقال "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه".

10 – صحيح البخاري (5/2279) وصحيح مسلم (4/1932) واللفظ له.

11 – البخاري (5/2279) ومسلم (4/1769).

12 – أبو داود (4/167) وقد ضعف الحديث بعض أهل العلم، انظر عون المعبود (12/129)

13– الشعراء: 221-224.

14 – نيل الأوطار (2/167)

15 – الفتح (1/549).

16 – التمهيد (22/196)