هكذا يفعل المسجد

هكذا يفعل المسجد

الحمد لله القائل لنبيه : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ1، والقائل: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ2، والصلاة والسلام على القائل: الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام؛ إذا فقهوا3 أما بعد:

فإن عظم الوسيلة بعظم غايتها، فإذا كانت الغاية عظيمة كانت الوسيلة إليها عظيمة، فلما عظمت الجنة عظم الطريق الموصل إليها وهو صراط الله المستقيم، ولما عظم هذا الصراط؛ أمرنا الله بسؤال الهداية إليه بقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ4، وكان نبينا  يسأل من ربه الهداية في كل أحواله. والمتأمل في كتاب الله – تعالى – يجد أن الهداية تنقسم إلى قسمين:  1- هداية التوفيق والإلهام: وهي من الله  لعباده بأن يهديهم سبيل الرشاد، والتي قال عنها لمحمد : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ 5، والتي منه سبحانه للكائنات التي قال عنها: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى6.

2- هداية الدلالة والإرشاد: وهي الهداية التي جاء بها الأنبياء والمرسلون لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور، منطلقين من بيوت الرحمن التي هي مظان وجودها، وورث هذه الهداية عنهم العلماء، والدعاة، والصالحون الذين تربوا في هذه المساجد.

والمتأمل في المسجد ودوره في هداية الدلالة والإرشاد يلحظ من خلال تأمله أن الدور الأعظم في هداية البشرية، وإخراجها من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإسلام، ومن الجهل إلى العلم، ومن الشقاوة إلى السعادة، ومن الذل إلى العزة، ومن الضعف إلى القوة؛ إنما يقوم به المسجد، لأن المسجد جامعةٌ للهداية، تخرج منها الخليفة الأول أبو بكر الصديق ، والثاني عمر الفاروق ، والثالث عثمان ذو النورين ، والرابع علي أبو السبطين  .

إذا كان هذا الجيل أتباع نهجـــه وقد حكموا السادات في البدو والحضر
فقل كيف كان المصطفى وهو رمزهم  مع نوره لا تذكر الشمس والقمـــر

 

ولما كان المسجد مدرسة للدلالة والإرشاد، وقلعة للعلم والتعلم، وعنوان للعزة والكرامة؛ جعله النبي  الركيزة الأولى لإقامة الدولة الإسلامية في المدينة.

صناعة المسجد:

لو بحثت في مصانع الدنيا، وتأملت في إنتاجات البشر، ونظرت في مؤسسات العالم، وقرأت في صفحة الكون؛ لن تجد مصنعاً يصنع فيه الرجال مثل المسجد

لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفسـاح
في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح

 

لأن المالك هو رب العزة: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً7.

ولأن حجر الأساس هو التقوى والرضوان: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ8.

ولأن المنهج المقرر هو القرآن: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ9.

سمعتك يا قرآن قد جئت بالبشرى سريت تهز الكون سبحان الذي أسرى

 

نموذج من صناعة المسجد:

هذا النموذج الرائع هو الصحابي الجليل ثمامة بن أثال  سيد بني حنيفة، عاش فترةً من الزمن في أوحال الشرك والوثنية، والمعتقدات الجاهلية، يعبد الأصنام، ويدعوها من دون رب الأنام، لا يدين بدين غير دين ابآءه وأجداده إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ 10 فمرت الشهور والأيام وهو على هذا الحال، وتوالت السنون والأعوام وهو راكد في هذا المستنقع، يضمر العداوة للنبي ، ويكن الحقد لأتباعه، ويبغض أرضه، ويسب عرضه، وما هي إلا فترة وإذا بفجر الهداية يبزغ، وشمس التوحيد تسطع، ونور الرسالة يشعشع، وإذا بالنبي  يرسل سريةً جهة اليمامة قائدها: محمد بن مسلمة، وعددها ثلاثون راكباً، وزمن تحركها في العاشر من محرم للسنة السادسة من الهجرة، فغارت هذه السرية على بني بكر بن كلاب فهربوا، فاستاق المسلمون نعماً وشاءً، وقدموا المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعهم الأسير ثمامة بن أثال ، وبدء الصحابة يفكرون كيف يصنعون به، ويتساءلون ما هو الحل؟

وجاء دور المسجد:

ليثبت لنا أنه جامعةُ هداية، ونقطةُ تحول، ومنقذُ أجيال، وإذا بالنبي  يضع الدواء على الداء، ويأمر بربطه في سارية من سواري المسجد حتى يتم التحول الجذري في حياته عندما يسمع المؤذن وهو يردد الكلمات التي تعلن التوحيد لله وحده، وتشهد برسالة النبي ، وينظر إلى المسلمين وهم صفاً واحداً متراصين كالبنيان الواحد، ويشهد حلقات العلم والتعليم، والاستجابة التامة لأوامر النبي ، ويسمع كلام الله وهو يتلى عليه بكرةً وعشياً، ليدفعه كل هذا إلى معرفة الإسلام من منبعه الصافي، واتباع الحق، ورؤية قوة الإسلام، واتحاد المسلمين، فلما شاهد ثمامة  هذه الأطياف في المسجد بدأ يحدث نفسه بالإسلام، فَمَرّ بِهِ النبي فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ فَقَالَ: “يَا مُحَمّدُ إنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْت” فَتَرَكَهُ، ثُمّ مَرّ بِهِ مَرّةً أُخْرَى فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَرَدّ عَلَيْهِ كَمَا رَدّ عَلَيْهِ أَوّلًا، ثُمّ مَرّ مَرّةً ثَالِثَةً فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ، فَأَطْلَقُوهُ، فَذَهَبَ إلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ، ثُمّ جَاءَهُ فَأَسْلَمَ، وَقَالَ: “وَاَللّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إلَيّ مِنْ وَجْهِك؛ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُك أَحَبّ الْوُجُوهِ إلَيّ، وَاَللّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ دِينٌ أَبْغَضَ عَلَيّ مِنْ دِينِك؛ فَقَدْ أَصْبَحَ دِينُك أَحَبّ الْأَدْيَانِ إلَيّ، وَإِنّ خَيْلَك أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَبَشّرَهُ رَسُولُ اللّهِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: صَبَوْتَ يَا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: “لَا وَاَللّهِ وَلَكِنّي أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمّدٍ ، وَلَا وَاَللّهِ لَا يأتيكم من الْيَمَامَةِ حَبّةُ حِنْطَةٍ حَتّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ  “وَكَانَتْ الْيَمَامَةُ رِيفَ مَكّةَ، فَانْصَرَفَ إلَى بِلَادِهِ، وَمَنَعَ الْحَمْلَ إلَى مَكّةَ حَتّى جَهِدَتْ قُرَيْشُ، فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ  يَسْأَلُونَهُ بِأَرْحَامِهِمْ أَنْ يَكْتُبَ إلَى ثُمَامَةَ يُخَلّي إلَيْهِمْ حَمْلَ الطّعَامِ؛ فَفَعَلَ رَسُولُ اللّهِ  11.

فرضي الله عن ثمامة بن أثال كيف تحولت حياته بسبب المسجد، وكيف تغير حاله، وصلحت دنياه وآخرته، كل هذا الفضل بعد الله منطلقٌ من تأثير المسجد في النفوس، ولو أن الناس ارتادوا المساجد لصلحت لهم الدنيا والآخرة. اللهم وفقنا لاعتياد بيوتك، وارزقنا الهداية والتوفيق

والحمد لله رب العالمين.


1– (القصص:56)

2– (الأعراف:178)

3– صحيح مسلم (ج13/ ص89 )

4– (الفاتحة:6)

5– (القصص:56)

6– (طـه:50)

7– (الجـن:18)

8– (التوبة: من الآية 109)

9– (الاسراء: من الآية 9)

10– (الزخرف: من الآية 22)

11–  زاد المعاد (ج3/ص247) بتصرف يسير.