أرباح المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه من يومنا هذا إلى يوم الدين، أما بعد:
فيسرنا أن نكتب لقرائنا الكرام في هذا المبحث عن صفقات تجارية، وأرباح هائلة، لا توجد إلا في أماكن خاصة، ولن يستطيع العثور عليها إلا أصحاب الهمم العالية الذين لا يكلِّون ولا يملِّون،ولا يضجرون ولا يقنطونوَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ1 هذه الأرباح لا توجد في الشركات، ولا في المؤسسات، ولا في البنوك، ولا في الأسواق، لأنها صفقات من نوع خاص ذات أرباح عالية أعلن عنها محمد – صلى الله عليه وسلم -، وتبناها الصحابة الكرام، وتشبث بها التابعون، وتنافس عليها السلف، فيا ترى ما هي هذه الأرباح؟
ويا ترى كيف يمكن الحصول عليها؟
أما هذه الأرباح فإنها أرباح بيوت الرحمن، أرباح المساجد يتاجر فيها كل راكع وساجد، وقائم وعابد، أغنتهم هذه الأرباح عن الالتفات إلى تجارة الدنيا، وصفقات الأسواق؛ فتاجروا مع الرحمن ببضاعة التسبيح بالغدو والآصال، فحازوا على ربح عظيم، وكنز ثمين اسمه "الرجولة" قال الله – تعالى-: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ*رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (النور:36-38)
أما كيف يمكن الحصول عليها؟
فالجواب: أن الحصول عليها يكون بالطرق التالية:-
1- الغدو والرواح إلى المساجد: فإن من غدا إلى المسجد أو راح حصل على ربح الضيافة من المولى – سبحانه وتعالى – كما جاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أن النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ))2، والغدو: هو السير والتبكير أول النهار.
بل أعد الله له كأجر حاج تاماً حجته كما جاء عند الطبراني من حديث أَبِي أُمَامَةَ – رضي الله عنه – أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: ((مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لا يُرِيدُ إِلا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ؛ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ))3.
2- المحافظة على صلاة الجماعة في المسجد لما جاء في الصحيح من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَة))4.
3- الوضوء في البيت والخروج إلى المسجد، وكثرة الخطى إلى المساجد؛ لما صح من حديث سَلْمَانَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ؛ فَهُوَ زَائِرُ اللَّهِ، وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ الزَّائِر))5.
ولما صح من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ((صَلَاةُ أَحَدِكُمْ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ وَبَيْتِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ، لَا ينهزه إِلَّا الصَّلَاةُ؛ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَ بِهَا دَرَجَةً، أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، وَالْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ، مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، وَما زال أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ))6.
4- الانتظار في المسجد للصلاة الأخرى، يبين ربحه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ!! قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخطى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ))7.
5- بناء المساجد الحسي والمعنوي قال – تعالى-: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ8.
وصح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من حديث ابْنِ عَبَّاس – رضي الله عنه – أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة))9.
6- كثرة اعتياد المساجد لما جاء عند الترمذي من حديث أَبِي سَعِيدٍ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فاشهدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ))10.
7- المكث في المسجد، وتلاوة القرآن فيه، والاستماع لأهل العلم، وحضور المحاضرات؛ كل هذا يدل عليه الحديث المشهور الذي حوى سعادة الدنيا والآخرة، وجاد به الرحمن على رواد المساجد من فضله، وأفاض عليهم من واسع مغفرته، وأنزل عليهم سكينته، وغشاهم برحمته، وحفهم بملائكته، وذكرهم في ملكوته، فقال نبيه – صلى الله عليه وسلم – مرغباً لهذه الأمة، وحاثاً لها على هذا الخير العميم، والثواب الجزيل: ((مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ – تَعَالَى- يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ))11.
نسأل الله – تعالى- أن يوفقنا لما فيه رضاه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
1– (الحجر:56).
2– صحيح مسلم (ج ص 421-3).
3– المعجم الكبير للطبراني (ج6/ص99) .
4– صحيح البخاري (ج3/ص 34).
5– رواه الطبراني في المعجم الكبير (ج6/ص66) وقال الألباني أنه حسن (صحيح الترغيب والترهيب (ج1/ص77).
6– صحيح البخاري (ج 7/ ص315).
7– صحيح مسلم (ج 2/ ص57).
8– (التوبة:18).
9 – مسند أحمد (ج 5/ ص 82).
10 – سنن الترمذي (ج10/ص 359).
11– صحيح مسلم (ج13/ص 213).