حديث البطاقة

حـديث البطـاقة

حـديث البطـاقة

 

الحمد لله الذي تفضل على عباده بالجود والكرم، وأسبغ عليهم عموم الخير وسائر النعم، وصلى الله على نبينا محمد رسول العرب والعجم، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

"حديث البطاقة" من الأحاديث التي تبين هول يوم القيامة وشدته على الناس، وفيه بيان عظمة كلمة التوحيد التي لا يثقل معها شيء، فالتوحيد الخالص الذي لا تشوبه شائبة، ولا يكدره شرك، ولا تعلق بغير الله – تعالى-؛ ينجي صاحبه يوم القيامة برحمة الله وفضله.

إن حديث البطاقة الآتي ذكره لا يعني التواكل وترك العمل، والتفريط في الواجبات وارتكاب المحرمات، لأن مثل هذه الأحاديث ليست عامة لكل الناس، بل تدخل تحت مشيئة الله ورحمته، وقد تقتضي مشيئة الله – تعالى- تعذيب صاحب الكبائر من المسلمين فيكون قد خسر خسراناً مبيناً بتفريطه في جنب الله – تعالى-.

وسنقف مع حديث البطاقة وقفات إيمانية وتربوية عديدة بعد أن نذكر الحديث الشريف:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (إن الله سيخلِّص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات! فقال: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة؛ فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء).1

قوله – صلى الله عليه وسلم -: (سيخلِّص) أي يميز ويختار.

قوله: (سِجلّاً) أي كتاباً كبيراً.

قوله: (كتبتي) جمع كاتب، وهم الملائكة الذين يكتبون أعمال المكلف.

قوله: (احضر وزنك) أي الوزن الذي لك، أو وزن عملك، أو وقت وزنك، أو آلة وزنك وهو الميزان، ليظهر لك انتفاء الظلم، وظهور العدل، وتحقق الفضل.

قوله: (فطاشت السجلات) أي خفت.

قوله: (البطاقة) هي "رُقْعة صغيرة يُثْبَت فيها مِقْدارُ ما يُجْعَل فيه إن كان عَيْناً فَوزنُهُ أو عَددُهُ، وإن كان متَاعا فَثَمنُه، قيل: سُمّيت بذلك لأنَّها تُشَدُّ بِطَاقةٍ من الثَّوب فتكون الباء حينئذ زائدة، وهي كلمة كثيرة الاستعمال بمصر".2

ولا يزال استخدام البطاقة في زماننا بنفس المعنى الوارد في الحديث، فقد استخدمت البطاقة بأشكال مختلفة تحوي معلومات مختصرة عن الإنسان، مثلها البطائق الشخصية والعائلية والانتمائية لمؤسسة أو منشأة ونحو ذلك.

والمقصود أن البطاقة الواردة في الحديث فيها كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذه الكلمة قد اختصرت الإسلام كله.

 

من فوائد الحديث ومسائله:

– التوحيد يكفر الله به الخطايا التي هي دون الشرك والكفر:

قال الشيخ صالح الفوازن: "هذا الحديث الشريف فيه أن التوحيد يكفر الله به الخطايا التي لا تقتضي الردّة والخروج من الإسلام، أما الأعمال التي تقتضي الردة فإنها تناقض كلمة التوحيد، وتصبح لفظًا مجردًا لا معنى له، قيل للحسن البصري – رحمه الله -‏:‏ إن ناسًا يقولون‏:‏ من قال‏:‏ لا إله إلا الله دخل الجنة!!،‏ فقال‏:‏ من قال‏:‏ لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة.

فكلمة لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، والسبب لا ينفع إلا إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه، فالمنافقون يقولون‏:‏ لا إله إلا الله فلا تنفعهم، وهم في الدرك الأسفل من النار، لأنهم يقولونها بألسنتهم فقط من غير اعتقاد لمعناها، وعمل بمقتضاها‏".3

– أن الإخلاص وقوة التوحيد سبب لتكفير الذنوب:

قال ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه منهاج إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله له به كبائر.." ثم ذكر حديث البطاقة إلى أن قال: "فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة".4

وقال ابن القيم – رحمه الله -: الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحداً وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات فلا يعذب، ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل وطاشت لأجله السجلات: لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة".5

– إثبات الميزان يوم القيامة، وأن له كفتين:

قال ابن حجر العسقلاني – رحمه الله تعالى -: "قال أبو إسحاق الزجاج أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال، وأنكرت المعتزلة الميزان، وقالوا هو عبارة عن العدل! فخالفوا الكتاب والسنة؛ لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال ليرى العباد أعمالهم ممثلة؛ ليكونوا على أنفسهم شاهدين، وقال ابن فورك: أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها، إذ لا تقوم بأنفسها، قال: وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس – رضي الله عنه – أن الله تعالى يقلب الأعراض أجساماً فيزنها، انتهى، وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل والقضاء، فأسند الطبري من طريق بن أبي نجيح عن مجاهد في قوله – تعالى-: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ.. (47) سورة الأنبياء قال: إنما هو مثَل، كما يجوز وزن الأعمال كذلك يجوز الحط، ومن طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال: الموازين العدل! والراجح ما ذهب إليه الجمهور، وأخرج أبو القاسم اللالكائي في السنة عن سلمان قال: يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في إحداهما السماوات والأرض ومن فيهن لوسعته، ومن طريق عبد الملك بن أبي سليمان ذكر الميزان عند الحسن فقال: له لسان وكفتان، وقال الطيبي: قيل إنما توزن الصحف، وأما الأعمال فإنها أعراض فلا توصف بثقل ولا خفة، والحق عند أهل السنة أن الأعمال حينئذ تجسد أو تجعل في أجسام فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة، وأعمال المسيئين في صورة قبيحة، ثم توزن، ورجح القرطبي أن الذي يوزن الصحائف التي تكتب فيها الأعمال، ونقل عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: توزن صحائف الأعمال، قال: فإذا ثبت هذا فالصحف أجسام فيرتفع الإشكال، ويقويه حديث البطاقة الذي أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه، وفيه فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة. انتهى، والصحيح أن الأعمال هي التي توزن، وقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن)، وفي حديث جابر رفعه: (توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار) قيل: فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: (أولئك أصحاب الأعراف) أخرجه خيثمة في فوائده، وعند ابن المبارك في الزهد عن ابن مسعود نحوه موقوفاً، وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن حذيفة موقوفاً: أن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل – عليه السلام -".6

– هذا الحديث ليس قاعدة مطردة لكل الناس:

فهذا الرجل داخل تحت مشيئة الله ورحمته، وإلا فكم من أهل الكبائر من يعذب في النار على قدر جرمه، ثم يخرج منها، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة الكثيرة ومنها الحديث المشهور في آخر من يخرج من النار.

فلا يغتر مقصر أو مفرط أو تائه عن الله – تعالى- بأنه يقول كلمة التوحيد، ثم بعد ذلك لا يضره ما فعل، كما هي أفعال وممارسات كثير من المسلمين في تركهم الصلاة والجمع والجماعات، وفعل المنكرات التي تهتز لها الجبال.

يقول ابن القيم – رحمه الله -: (ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثقَّل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات: لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات، انفردت بطاقته بالثقل والرزانة).7

يقول الشيخ سفر الحوالي شارحاً كلام ابن القيم:

أي: لا يقول الواحد منا: هذا حديث عظيم، كلمة لا إله إلا لله ثقلت وطاشت بالسجلات، إذاً: نفعل ما نشاء لأن عندنا لا إله إلا الله، فنقول: القضية ليست قضية بطاقة فقط، هناك حقائق وأعمال للقلب، فمن الذي يستطيع أن يدعي أنه مع هذه السجلات لديه من أعمال القلب واليقين ما يجعل البطاقة ترجح؟

ولهذا فإن هذه الحالات لشذوذها وخروجها عن القاعدة ذكرها النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولو كانت جارية على القاعدة لما ذكرها؛ لأن الجاري على القاعدة لا يحتاج أن يفرد بالذكر، وذلك كأن يقال: إن رجلاً رجحت حسناته على سيئاته فأدخل الجنة، لن يأتي حديث مثل هذا؛ لأن هذا معروف وقاعدة معلومة عند الناس، أما هذا الرجل فقد ذكر لغرابة حاله.

إذاً لا يأخذ من هذا الحديث أحد قدوة إلا في أمر واحد وهو تحقيق التوحيد؛ لأن تحقيق معنى لا إله إلا الله هو الذي جعل البطاقة تطيش بالسجلات".8

هذا من أهم ما يتعلق بحديث البطاقة العظيم، نسأل الله أن يرحمنا برحمته الواسعة في الدنيا والآخرة، ونعوذ به – تعالى- من النار وما قرب إليها من قول وعمل، ونسأله تعالى الجنة وما قرب إليها من قول وعمل.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.

2 النهاية في غريب الأثر، للجزري (ج 1 / ص 353).

3 نقلاً عن موقع "طريق الإسلام".

4 منهاج السنة النبوية، (ج1 / ص218-220).

5 مدارج السالكين     جزء 1 –  صفحة 331-332.

6 فتح الباري، 13 / 538-539.

7 مدارج السالكين  جزء 1 –  صفحة 332 .

8 نقلاً عن موقع الشيخ سفر الحوالي.