دخول الكافر مساجد الحل

دخول الكافر مساجد الحل

دخول الكافر مساجد الحل

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعــد:

فلا يمكَّن مشرك من دخول المسجد الحرام مطلقاً حتى يعتنق دين الإسلام؛ لما نصَّ الله تعالى عليه في كتابه الكريم من أنهم نجس، ونهى عن إدخالهم المسجد الحرام, قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (28) سورة التوبة.

وقوله: بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا: هو العام الذي حج فيه أبو بكر فنادى فيه بالأذان1؛ حيث بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام تسع لما أمر الصديق -رضي الله عنه- على الحجيج علياً -رضي الله عنه-  وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسورة براءة, وأن لا يحج بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان2.

فهل يا ترى ينسحب منعهم من دخول المسجد الحرام إلى المسجد النبوي والمسجد الأقصى -فك الله أسره- وغيرهما من المساجد؟ وقبل الجواب المباشر عن هذا التساؤل نورد كيف تعامل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع مشركين في إدخالهم المسجد, ثم ننظر هل في ذلك دلالة على جواز إدخالهم مساجد الحل, وذلك من خلال كلام العلماء في ذلك.

لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجيز الكفار من دخول مسجده للمصلحة إذ كانوا يتأثرون بحسن تعامله، فإما أن يدخلوا في الإسلام بسبب ذلك, أو ينتشر عبرهم شيء من صفات هذا الدين العظيم عبر من لم يسلم منهم عند عودتهم إلى ديارهم, ومما يدل على ذلك قصة ثمامة بن أثال حيث كان لا يزال مشركاً, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيلاً قبل نجد, فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال, سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد, فخرج إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟) فقال: عندي يا محمد خير, إن تقتل, تقتل ذا دم, وإن تنعم, تنعم على شاكر, وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت, فتركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان بعد الغد فقال: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟) قال: ما قلت لك, إن تنعم, تنعم على شاكر, وإن تقتل, تقتل ذا دم, وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت, فتركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان من الغد فقال: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟) فقال: عندي ما قلت لك, إن تنعم, تنعم على شاكر, وإن تقتل, تقتل ذا دم, وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ) فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك, فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ, والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك, فأصبح دينك أحب الدين كله إليَّ, والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك, فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليَّ, وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمره أن يعتمر, فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا ولكني أسلمت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم3.

ومن ذلك قصة وفد نصارى نجران, قال ابن إسحاق: وَفَدَ على رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وفدُ نَصَارى نجران بالمدينة, فحدَّثني محمد بن جعفر بن الزبير, قال: "لمَّا قدم وفدُ نجرانَ على رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- دخلُوا عليه مسجده بعد صلاةِ العصرِ, فحانتْ صلاتُهم فقامُوا يُصلُّون في مسجدِهِ, فأراد النَّاسُ منعهم, فقالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (دَعُوهُم), فاستقبلُوا المشرقَ فصلُّوا صلاتَهم4.

وننظر الآن إلى أقوال العلماء في هذه المسألة, فمن تلك الأقوال:

"لا يجوز لكافر دخول حرم مكة، ولا المدينة، ولا مساجد الحل, ولو بإذن مسلم، ويجوز دخولها -أي مساجد الحل- للذمي والمعاهد والمستأمن، إذا استؤجر لعمارتها, ويكره السؤال والتصدق عليه فيه5. ومثل هذا القول: "لا يجوز لكافر دخول مسجد الحل ولو بإذن مسلم؛ لقوله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ (18) سورة التوبة, ويجوز دخولها -أي مساجد الحل- للذمي, ومثله المعاهد والمستأمن إذا استؤجر لعمارتها؛ لأنه لمصلحته6.

قال في المستوعب: هل يجوز لأهل الذمة دخول مساجد الحل؟ على روايتين فظاهر الإطلاق، وكلام القاضي: يقتضي جوازه مطلقاً، لسماع القرآن والذكر؛ ليرق قلبه، ويرجى إسلامه, وقال أبو المعالي: إن شرط المنع في عقد ذمتهم منعوا، وإلا فلا, وروى أحمد عن النبي -عليه أفضل الصلاة والسلام-: (لَا يَدْخُلُ مَسْجِدَنَا هَذَا مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِنَا هَذَا غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَخَدَمِهِمْ)7. قال في الفروع: فيكون لنا رواية بالتفرقة بين الكتابي وغيره8.

وقيل: "ليس لكافر دخول مسجد من مساجد الحل ولو أذن له فيه مسلم؛ لأن علياً -رضي الله عنه- بصر بمجوسي وهو على المنبر، فنزل وضربه وأخرجه, وهو قول عمر -رضي الله عنه- ولأن حدث الجنابة والحيض يمنع ، فالشرك أولى.

وعند القاضي أبو يعلى: يجوز لكافر دخول المسجد بإذن مسلم إن رجي منه إسلام لأنه -صلى الله عليه وسلم- قدم عليه وفد أهل الطائف، فأنزلهم في المسجد قبل إسلامهم, وأجيب عنه وعن نظائره بأنه كان بالمسلمين حاجة إليه، وبأنهم كانوا يخاطبونه -صلى الله عليه وسلم- ويحملون إليه الرسائل والأجوبة، ويسمعون منه الدعوة، ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخرج لكل من قصده من الكفار9.

ولننقل ما قاله لعلامة الألباني حيث جمع أقوال أهل العلم في هذا فقال -رحمه الله-: "قلت: وتخصيص المسجد الحرام بالذكر في الآية الكريمة يدل على أن غيره من المساجد ليس في حكمه فيجوز دخول المشركين إليها, وإلى هذا ذهب ابن حزم في المحلى فقال: "ودخول المشركين في جميع المساجد جائز, حاشا حرم مكة كله، المسجد وغيره، فلا يحل البتة أن يدخله كافر" وهو قول الشافعي وأبي سليمان, وقال أبو حنيفة: لا بأس أن يدخله اليهودي والنصراني ومنع منه سائر الأديان, وكره مالك دخول أحد من الكفار في شيء من المساجد قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا الآية, قال ابن حزم: فخص الله المسجد الحرام فلا يجوز تعديه إلى غيره بغير نص10. قال الألباني: قلت: واحتج أتباع مالك لمذهبه بالتعليل المذكور في الآية فأجروه في سائر المساجد فقال القرطبي: "قال الشافعي -رحمه الله-: الآية عامة في سائر المشركين خاصة في المسجد الحرام, ولا يمنعون من دخول غيره فأباح دخول اليهود والنصارى في سائر المساجد"11.

قال ابن العربي: "وهذا جمود منه على الظاهر لأن قوله -عز وجل-: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة, قال صديق خان في نيل المرام: "ويجاب عنه بأن هذا القياس مردود بربطه -صلى الله عليه وسلم- لثمامة بن أثال في مسجده وإنزال وفد ثقيف فيه" قلت: أما ربط ثمامة فقد أجاب عنه ابن العربي نفسه بأنه كان قبل نزول الآية, وبمثل هذا أجاب عنه ابن العربي نفسه كان قبل نزول الآية, وبمثل هذا أجاب عن دخول أبي سفيان المسجد, وأما نزول وفد ثقيف فيه فلو صح إسناده لكان حجة عليهم لا جواب لهم عنه؛ لأنه كان بعد نزول الآية.  قلت: وقد اختلف النقل عن أبي حنيفة في هذه المسألة فابن حزم نقل عنه -كما سبق- جواز دخول اليهودي والنصراني فقط إلى المسجد الحرام وغيره من المساجد وهو موافق لما حكاه الجصاص في الأحكام, والعيني في العمدة عن أبي حنيفة.

قال العيني: "واحتج بما رواه أحمد في مسنده بسند جيد عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ مَسْجِدَنَا هَذَا مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِنَا هَذَا غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَخَدَمِهِمْ)12. وغير هؤلاء نسبوا إلى أبي حنيفة القول بجواز دخول المشرك أيضاً ففي فتح الباري: "وفي دخول المشرك المسجد مذاهب, فعن الحنفية الجواز مطلقاً, وعن المالكية والمزني المنع مطلقاً, وعن الشافعية التفصيل بين المسجد الحرام وغيره للآية, وقيل: يؤذن للكتابي خاصة, وحديث الباب يرد عليه فإن ثمامة ليس من أهل الكتاب"13.

ويؤيد هذا النقل ما في  فيض الباري: "وأما الحنفية فإنهم قالوا: إن المشرك ليس بنجس وله أن يدخل المسجد الحرام وغيره, كما في الجامع الصغير, فأشكلت عليهم الآية, قلت: وفي السير الكبير أنه لا يدخل المسجد الحرام عندنا أيضاً كما هو ظاهر النص, واختاره في الدر المختار؛ لأنه آخر تصانيف محمد رضي الله عنه, ثم صرح الشيخ الكشميري صاحب الفيض باختياره, وعلل ذلك بقوله فيما سبق من الكتاب: "فإنه أوفق بالقرآن وأقرب إلى الأئمة". قلت: وأما حديث جابر14 الذي احتج به أبو حنيفة فلا يصح لأنه من رواية شريك عن أشعث بن سوار عن الحسن عنه وهو في المسند من طريقين عن شريك15.

ومما سبق يمكن أن نستخلص أنه يجوز للكافر أن يدخل مساجد الحل ليرى صلاة المسلمين, ويشهد أخلاقهم في تعاملهم مع ربهم ومع علمائهم ومع بعضهم البعض ما دام مهتماً بالتعرف على الإسلام؛ إذ ربما يؤثر ذلك فيه فيسلم، وقد قال الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6) سورة التوبة, وقصة ثمامة شاهدة على ذلك؛ إذ لما سمع آيات الله, وتمت محاورته من قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان مآله أن فك أسره وأبلغ مأمنه, فعاد يشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, فسئل لم لم تسلم قبل,؟ قال: حتى لا يقال أسلم مكرهاً.

هذا ما تم جمعه في هذه المسألة, والله أعلم.

 


 


1 تفسير الطبري (ج 4/ ص 392).

2 تفسير ابن كثير (ج 2/ ص 5).

3 رواه مسلم (59).

4 سيرة ابن هشام1/573،584، وابن سعد 1/357.

5 مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (ج 6 / ص 23).

6 كشاف القناع عن متن الإقناع (ج 6 / ص 265).

7 رواه أحمد في المسند (14690) وسيأتي بيان مدى صحته في كلام الألباني رحمه الله.

8 الإنصاف (ج 7 / ص 201).

9 مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (ج 7 / ص 255).

10 المحلى لابن حزم (ج 4 /ص 243).

11 تفسير القرطبي (ج 8/  ص 95).

12 سبق أنه في مسند أحمد.

13 فتح الباري (ج 1/ ص560).

14 السابق.

15 من كتاب الثمر المستطاب لالعلامة الألباني.