إسناد الظهر إلى القبلة وجلوس القرفصاء في المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الأولى والأكمل للمصلي في المسجد أن يبقى مكانه الذي صلى فيه، وأن لا يتحول عنه إلى مكان آخر، لما جاء من الفضل العظيم لمن صلى ثم قعد في مصلاه الذي صلى فيه؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (… فإذا صلَّى –أي الإنسان- لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه…)1. وجاء عند أبي داود وغيره وصححه الألباني عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث، أو يقم: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه). فالأفضل والأكمل للإنسان أن يقعد في مكانه الذي صلى فيه، ولا حرج عليه في أن يتحول من مكانه إلى مكان آخر من المسجد.
وقد كره بعض العلماء أن يتحول المصلي فيسند ظهره إلى جهة القبلة، بمعنى أنه يجعل القبلة خلف ظهره، وممن كره ذلك الإمام أحمد -رحمه الله- فقال: "هذا مكروه"2..
ولكن قد دل الحديث الشريف على الجواز، فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الطويل وفيه: (…فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسندا ظهره إلى البيت المعمور)3 قال القاضي -رحمه الله-: "يستدل به على جواز الاستناد إلى القبلة وتحويل الظهر إليها"4..
فلو احتاج الإنسان أن يسند ظهره إلى الجدار كأن يكون مريضاً أو به عاهة أو ما أشبه ذلك، فيجوز له إسناد ظهره إلى جهة القبلة..
وعلى كل حال فالأصل في ذلك الجواز سواء احتاج أو لم يحتج إلى ذلك؛ لأنه لم يرد دليل في كراهة ذلك -والله أعلم-.
وأما جلسة القرفصاء في المسجد، وهو الاحتباء، فإنها لا تكره مطلقاً بل تجوز، لما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفناء الكعبة محتبياً بيديه هكذا.. ووصف بيديه الاحتباء، وهو القرفصاء..
وعن قيلة بنت مخرمة -رضي الله عنها- قالت: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قاعدٌ القرفصاء، فلما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق5.. وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس احتبى بيده6..
وجلسه القرفصاء هي: "أن يجلس على إليتيه ويلصق فخديه ببطنه، ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه، أو يجلس على إليتيه منكباً ويلصق بطنه بفخذيه ويتأبط كفيه"7.. وقال في ابن مفلح: "والقرفصاء أن يجلس الرجل على أليتيه رافعا ركبتيه إلى صدره بأخمص قدميه إلى الأرض، وربما احتبى بيده ، ولا جلسة أخشع منها"8.. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..